محمد بن صالح يكتب: ظــــلام الــعـقـل

8 أكتوبر 2020
 
في برودة هذا الظّلام الحالك، وبين جدران تتدفق بينهم نسمات الرطوبة، تصعق في أجسادنا واستفحالت بين عظامنا، كأنها لسعات النحل التي تذيقنا عذوبة العسل وما نحن بأكله…
قد تقلّب وجه السماء في تقلبات اللا مبالية، وغيوم بيضاء كالعهن تحجب ما وراء هناك… بين هذا وذاك تسطع خيوط الشمس الذهبية تلمع في الأفق… فما تكاد تضمحل تلك الغيوم على جبين السماء، إلا أرسلت شعاعها حثيثا، كاسحة لهذا الأفاق ما بين الأرض والسماء، ترسم ألوان الابتسامة، والرضى تجري في دمائهم، وعيون ذابلة جافة من السعادة، تبرق لوهلتها الأولى بعدما أغشاها أرزاء الدهر ومثالب الحياة، فإذا بها تكْنِس وجه السماء؛ لتشرق من جديد وتصارع تلك الغمامة السوداء، كأنها في حلبة الجياد تهز الأرض هزا، وتراب الأرض مبلل برائحة الموت يتطاير على أسمالنا فتخنق أنوفنا….
نتسلّق جدار الآلم لوحدنا بلا مؤنس ولا من يشدّ عضدنا…
ما أعظم هذا الظل يسير معنا كحارس القبور، و يحاكينا، وفي سبل المسارات يفزع أعداءنا، شامخا كالجبل، لا تشوبه شائبة ولا يحركه نباح ولا عواء ولا زئير، ولا يركع لمغتصب، ولا سفاح ولا مستعمِر…
أصارع منفردا عبر منعرجات يلُفّها الغموض…خطوات تلو الخطوات سيرا للمجهول لا تدركه المبصرات…
انحرفت بنا السفينة في جزيرة الموت، وحصرتنا الرياح من كل حدب وصوب، ولم يعد نسمع غير عواء الذئاب، ومن أين ولينا وجوهنا ونشرنا أعيننا، فهناك فوق التلال ينتهي مد بصرنا، وقلوبنا مذبذبة تطلق العنان لأفكارنا، أفكار أصابها الجمود، ترتعش من هذا الظلام، وهذه الأصوات المجهولة، كأنها أصوات تصرخ بداخلنا، ونحن نبحث عنها خارج صندوق أفكارنا…
آه لو تفكّرنا قليلا، ونأنينا بأنفسنا، عن ذواتنا لفهمنا لسان قلبنا، لا شك أراد أن يقذف شيئا في أغوارنا، ويـُوجّهنا حيث يجب أن نكون…
ما يحدث معنا ليس غريبا عنا، ولا يدعو للدهشة، بل أنفسنا الطفولية تندهش لكل شيء، إنها روح الفيلسوف التي تسكننا… يسعى لقول شيء، لكن لا يملك صوتا، فنحن صوته وعلى لساننا تجري كلماته، دهشته، أفكاره، وفلسفته، تشاؤمه، قد لا نفهمه أحيانا، هذا شيء طبيعي… المهم أن نندهش من شيء واللا شيء، ونحلل كل شيء، وحتى إن لم يحدث ذلك الشيء، لعل هذا الخوف يذوب و يخرج من حظيرته وينأى عنّا بعيدا بعيدا، لنخطو خارج السفينة، لا نبحث عن شيء يخصنا، بل نبحث عن ذاتنا، عن أحلامنا، عن طموحتنا، عن تحقيق ذواتنا…
إلى متى نبقى هكذا فوق هذا الجبل الأجرد، في قلب بيداء مظلمة، نبصر الناس تصنع المجد، ونصفق لها، ونحن بمقدورين أن نكون مثلها، وننغمس في صنع هذا الآمل…؟
لكن… يا للخيبة …!
ها هي الشمس غطست في مغيبها، ونفحتنا ببرودتها، ونفثت الظلام في أعيننا، وتركتْنا في الظّلماء الصّماء نعاني الويلات…
 
محمد بن صالح – مدينة تازة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :