ميموني سكينة تكتب: الوداع

24 أبريل 2024

بسم الله الرحمن الرحيم:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ” صدق الله العظيم

لأول مرة تتبخر الكلمات، وتختفي المعاني، ولا أجد أي كلام يعبر عن مسعاي، سوى تفويض أموري إلا الله عز وجل.

لا أعرف من أين أبدأ، وكيف أبدأ، وماذا سأقول..، وكيف حدث ذلك، وماذا كان ذلك، ومتى ذلك. ثمة أسئلة لا تنتهي منذ ذلك اليوم.

اعتزلت القلم منذ الفجيعة الأولى، منذ ارتشفت المرارة، تلك العاصفة التي أفقدتني صوابي وأردتني قتيلا.

كانت أسوء مكالمة هاتفية، أبشع ليلة على الإطلاق، ماذا؟ أبي توفي؟ ولكن متى؟ أبي الذي استطاع سبر الفيافي، الذي حارب الأمواج الصاخبة في حياته يتوفى، يتوفى بعيدا عن أعيننا، ونحن الذي كنا ننتظر عودته بعد أسبوع، أهكذا يكون الرجوع!

فجأة علت الأصوات في المنزل، بنسق صاخب، نواح هنا وهناك، اسودت أركان البيت. لحظة استجمعت قواي، فتذكرت النياحة التي كان يذمها أبي كاعتراض على القدر.

تسمرت في مكاني، لعله كابوس، فركت عيني لعلي أصحى من النوم، وينتهي هذا الفيلم، تائهة، مندهشة، متفاجئة، إنهم يقومون بتعزيتي، يا إلهي، ليس مجرد حلم، بل أتى اليوم كان يعدنا أبي إليه! ألم يأت سريعا، هل كانت مكالمتنا الأخيرة بابتسامة هادئة عبارة عن وداع أزلي.

كنت رجلا شهما، مخلصا، وفيا، حنونا، قنوعا، سمحا.. جمعت كل صفات العالم الطيبة، كنت القدوة التي كنت أحاول أن أنحو منحاها، ولا زلت كذلك. فكيف لرجل أن يتعلم القراءة ويلج ميدان العلم وهو لم يبرح المدرسة في حياته، بل كانت العزيمة الربانية سلاحه. دائما ما كنت أِشبهه بالفارابي أو بأحد الأعلام الزاخرة لما كان يزخر به من مهن وحرف مختلفة، لدرجه تنافسه مع أنبغ الأساتذة  وأطر الدولة حتى كانوا يعدونه ذو منصب جامعي بل كان يفوق أكثرهم .

لم تشغل نفسك بالملهيات أبدا، لم أجدك تسرب وقتك، كم كنت محبا لكتاب الله عز وجل، كم كنت تقيا، ورعا، كنت مكتبة تتنقل بالأحاديث النبوية، والشريعة والفقه..، وكل الميادين.

شملت امتهان جل المهن، منها ما أدركه ومنها ما لا أدركه، من (الفلاحة، البناء، الرياضة، السياقة باحترافية، الهندسة، التجارة، الخياطة، الحدادة، الصباغة…)، كان مؤذنا ، حتى لقب “بفقيه العائلة”، نظرا لتمسه بالدين في أقواله وأفعاله، واستناده إليه في جميع أمور حياته.

منذ سبع سنوات وأنت تعالج على مرض القلب، نجوت من الموت حرفيا، ولو لوهلة تألمت أمامنا، أو جزعت، دائما ما كنت تردد “الحمد لله”، كنت كتلة من الصبر والإيمان والتسلح بحبل الله المتين. لذلك قد تكون الصدمة قوية وأشد فتكا على قلوبنا.

كنت جبلا من الصبر، انهرت فجأة على حين غرة، دون موعد، وهل للموت موعد! أشعر بتمام الرضا وأنت الذي أفنيت عمرك استعدادا له.

والمفجع في الأمر، نبأتني جدتي برؤية استباقية قبل أربعة أشهر بوفاته، لم أتقبل كلامها، ظننه هذيان فقط، زمجرت في وجهها بجزع مفجع..

“هكذا تسبق الرؤيا عند الأم..”

” إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، دائما ما كنت ترددها على سمعي، حينما أقبل على فترة عصيبة بسبب موقف من المواقف..، بهذا الصبر سنتسلح، فأنت في روحي، كياني، صلاتي، مناجاتي، ليل نهار، صباح مساء، أناجي روحك وهي تسري داخلي، لعلها تخفف عني وطأ الفراق، لعلها تطلق صراخي المحبوس، فمنذ ذلك اليوم، اتقدت نار داخلي، تزداد شرارتها كل يوم، أطبطب عليها بتراتيلك، مواعظك… فأنت في ذمة الله، فكيف أسخط على قضائه وأنت الذي ربيتني على الإيمان وبالقضاء والقدر.

اللهم في كل دقيقة تمر على أبي وهو في قبره، افتح له باب تهب عليه نسائم رحمتك.

رحمك الله يا قرة عيني، طيب الله ثراك يا قطعة مني.

ميموني سكينة  – مدينة  جرادة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :