زكريا عبد اللوي يكتب: دموع ليسا – الجزء الأول

24 يونيو 2021
 
 
وقف من هناك قربها غير مصدق لما جرى، كان بوده لو يقول كلمة ما لكن شيأ ما منعه، فقط ظل ينظر إليها ، في حين ظلت هي تصرخ والدموع تتساقط كالأمطار من عينيها مرددة أنا اسفة، لم أرد يوما إيدائك، سامحني، لكنه لم يقل شيأ بل ظل ينظر فما هي إلا لحظات حتى سقط قربها، أطلقت هي صرخة مدوية كعويل الذئاب..وبعد لحظات قامت ثم امتطت فرسه الذي كان مربوطا إلى شجرتهما وانطلقت به.
 
الجزء الأول: العجوز
جلس هناك في المقطورة الاخيرة للقطار يغط في النوم، كان صوت شخيره عاليا جدا حتى أنه لم يدع الآخرين الذين كانوا يشاركونه الغرفة ينامون او حتى يهنأون بجلستهم، فصوت الشخير هذا كان أبشع الأصوات التي يمكن للإنسان أن يسمعها، غير أن أحدا لم يجرأ على إيقاظه ربما لأنهم كانوا جبناء أو لأنهم خافوا مظهره هذا، فبدا وكأنه رجل ذا مكانة عسكرية لملابسه الراقية، فقلما تجد شخصا في هذا المنطقة يلبس كما كان يلبس، وبدت ملامحه غريبة فكان واضحا أنه ليس من سكان هذه المنطقة، فكان رجلا أبيض الوجه، قوي البنية، نمت على وجهه العريضة لحية سوداء طويلة وكبيرة في حين إتخذت شاربه الكبيرة مكانها فوق شفتيه، بدا وكأنه في الخمسينيات من عمره. لم يكن سكان هذه المنطقة يتصفون بأي من هذه الصفات، فكانوا أشخاصا ذا بشرة تميل إلى الأحمر ونادرا ما تجد شخصا ذو لحية سوداء. تعالت الهمسات حوله ومن هو لكن أحدا لم يسأله، كان القطار يقترب من بلدة العين، التي تعرضت في العام الماضي لأعنف هجوم لقطاع الطرق والمرتزقة الذين كانوا يغيرون على هذه الاماكن منذ فترة، كانت هذه البلدة المحطة قبل الأخيرة، استيقظ الرجل على صوت صراخ شخصين آخرين كانا يجلسان معه في نفس القمرة، كان الأول رجلا في الأربعينيات من عمره، شخص أصلع ذو عينين ضيقتين وقامة طويلة تزيده رهبة، في حين كان الشخص الثاني رجلا أيضا بدا صغيرا مقارنة بالرجل الآخر وكأنه في الثلاثينيات من عمره، شخص نحيف قصير تنبعث منه رائحة كريهة وكان هذا مما استطاع أن يفهم الرجل سبب الخلاف فكان الأول يصرخ فيه أن يخرج من القمرة لكن الآخر ظل يقول أن له الحق في الركوب أيضا، تعالى الصراخ بينهما، وقام كل الجالسون من أماكنهم مما سبب تدافعا وتطاحنا في القمرة، حتى أن الشخص الثاني قد دفع الرجل المسافر ليقع الأخير في الجانب المقابل لباب القمرة، لما سقط، سقط أيضا مسدسه، فالتقطه بسرعة، في حين تعالت الآهات ونظرات التعجب والاستغراب من حوله وعلت الشخصان الذان كانا يتعاركان نظرة خوف. هدأ الصراخ من حوله وعاد الكل إلى أماكنهم، نفض هو الغبار عن ملابسه ثم عاد يجلس كانت قبعته موضوعة قربه، كانت قبعة سوداء دائرية، لما لبسها زادته رهبة،بدا الرجل ساكنا غير مهتم بالحديث، كان الجميع يختلس إليه النظر، لكنه ظل ساكنا.



وبعد لحظات كان القطار يطلق صافرته يعلم الركاب أنه قد وصل إلى المحطة، وبعد أن توقف هم الجميع بالمغادرة كان الرجلان اللذان تشاجرا قبل قليل الأول من غادرا ثم لحق بهم الآخرون، وكان هو آخر من وقف ليغادر، حيث حمل حقيبته الصغيرة بيده اليسرى ومد يده اليمنى لأخد صندوقه الذي كان موضوع هناك، غير أنه لم يجده، ارتسمت على شفتيه ابتسامة، ثم هم يغادر بسرعة، لم خرج من القطار لم يجد الكثير من الناس فلم تكن هذه محطة كبيرة، وكشأن القمرة كان الجميع يرمقه بنظرات الحيرة والاستفهام في حين كان نظؤه هو مسلط على الإثنين اللذان تشاجرا فكان واضحا أن واحدا منهما أخذه لما سقط، لكنه لم يجدهما، فما كان عليه إلا أن يؤجل بحثه عليهما، وعلى أية حال فذلك الصندوق لن يفيدهما بكل حال من الأحوال ولن يكونا قادرين على بيعه. كانت البلدة في حال سيئة مما بدا له، فلا تزال آثار المنازل المدمرة واضحة، ولا تزال نظرة الخوف بادية على سكان البلدة، لم تكن بلدة كبيرة، فكانت تحوي حانتين او ثلاث وبعض المخبزات و حداد واحد ومجموعة من المنازل المتفرقة وبعض المزارع وفندقين ، فكان سهلا عليه أن يجد مقر الشرطة فيها، مشى نحوه ثم دخل، كان المكان خاويا يحوي مكتب سفلي وطابق فوقي في حين كان رجلا، يغط في النوم في المكتب التحتي، جلس الرجل المسافر ينتظره أن يفيق، فلما لم يفعل، ضرب بيده على خشب الطاولة فقام الرجل جافلا من مكانه وهو يلعن بكل اللغات، تطلع من حوله ليرى الفاعل، لما استقرت عيناه على المسافر، همد فلم يعلم من هذا، ولم يستطع حتى أن يسأل ربما كان يعلم، وظل يردد في نفسه لقد قالوا أنهم سيرسلونه حتى الشهر القادم، لما لم يسأل بادره الشخص المسافر الكلام: لقد تلقيت رسالة عن مجيئي، حسنا أنا هو ويليام الشريف الجديد لهذه البلدة، قام الرجل من مكانه بسرعة وحياه ثم قال: أعتذر يا سيدي كنا نظن… قاطعه الآخر: أعلم لكني قررت المجيء اليوم، لا بد أن آتي اليوم.
علت ملامح الحيرة الضابط الآخر فقال: ولم يا سيدي؟ رد ويليام: لقد وردتنا معلومات أن زعيم قطاع الطرق قد ظل وحيدا وانقلب عليه معاونيه وقد تفرقوا الآن وقد أرسلت للقبض عليه. رد الضابط الآخر فهمت يا سيدي. قام ليام من مكانه وقال حسنا ساصعد فوق لأرتاح قليلا، إني أريدك هنا في المساء فلا تذهب لأي مكان. وصعد ليرتاح. جلس الضابط الآخر في كرسيه وهو يردد أية كارثة هذه حلت علينا، لقد كان الشريف ويليام من أقوى الأشخاص في الغرب كله زلم يكن هنالك شخص لم يسمع عنه، وحتى وإن كان طاعنا في السن، ربما كان هذا لبراعته في مطاردة الخارجين عن القانون، أو لقوة شخصيته ومواقفه الصارمة، غير أن ما كان يعيبه كونه شخص يتبع القانون بحذافيره، فإذا أمر بالقبض على أحد كان دلك ما فعل وإن طلب منه القتل، ما رحم أحد. هكذا جلس الضابط يفكر فيما إن كان هذه المرة هدفه القتل او فقط إلقاء القبض عليه.



 
 
كن الأسرع، كن الأذكى، انظر جيدا، ثم أطلق. كانت هذه هي الكلمات طما لتي لقنها له أبوه. لم يكن ريان كباقي الشباب في مثل عمره من سكان البلدة، فكان أقوى من يجيد استخدام المسدس وإطلاق الرصاص، كان سريعا جدا حتى أنه طالما تفوق على خصومه في أي لعبة خاصة بالمسدسات، فكان يربح كل أمواله من هذه المسابقات، كان يقطن جنوب مركز الشرطة، قرب مزرعة عائلة رشلا، التي كانت بعيدة قليلا عن البلدة حتى أنه يستغرقك مدة لا يستهان بها من الزمن حتى تصل مركز البلدة، بعد أن توفي أبوه السنة الفارطة، ظل ريان وحيدا، فلم يكن له إخوة، لأن أمه توفيت بعد أسبوع من ولادته، كانت الأيام الأولى بعد وفاة أبيه حزينة، كئيبة وإن كان يبلغ من العمر آنذاك العشرين، غير أنه لطالما أحب أبوه، وأعجب به. فكان أبوه من أشهر رجالات البلدة، لقوته من جهة، ولحكمته من جهة أخرى، فياما قبض على مطلوبين وأعادهم للعدالة، وياما حل مشاكل البلدة بمقترحاته الحكيمة، فكان إبنه ينتظر منه أن يكون كذلك، غير أنه ورث عنه قوته وحدها، و لم يرث حكمته، فكان فتى متهورا، يميل إلى الجنون، ومحب للمغامرات المجنونة. لكن يبدو وان كل شيء تغير منذ هجوم قطاع الطرق على البلدة، فأخد على عاتقه الإنتقام لكل أهالي البلدة كما كان أبوه ليفعل.
 
الجزء الثاني: الفتى
كعادته استيقظ ريان باكرا، ارتدى ملابسه المعتادة، حذائه الأسود الطويل اردفه بسروال أسود، وسترة سوداء، وتوسط حزامه مسدسه. وبالتأكيد ارتدى قبعته السوداء المدببة الأطراف، ثم تناول شيأ من الطعام الذي طبخه البارحة، لم يكن شيأ يذكر حيث كان عبارة عن لحم ضأن اصطاده البارحة، وقليل من يخنة الشعير، لما أنهى وجبته حمل معه بضع رصاصات إضافية، ثم إنطلق على متن حصانه يعدو قاصدا البلدة، ليتقصى أخبار الشريف الجديد، وليرى إن كان هناك أية أخبار جديدة، ولياقبلها. كان الطريق إلى مركز البلدة طريقا طويلا قليلا يمر ببضع مزارع ثم شيء من المنازل وحانة الآلهة التي كانت تقع مباشرة قبل مركز البلدة، كانت المشاهد نفسها تتكرر، حيث في المزارع كان العمال يخرجون الغنم والأبقار لترعى، كانت المزرعة الأولى مزرعة تابعة للسيد إلياي، رجل خرف في السبعينيات من عمره نسى كل شيء، غير الصراخ على العمال فتجده حاملا بندقيته يصرخ غي وجه الآخرين بالأوامر، ربما كان فقط يهوى الصراخ على الآخرين، أم أنها كانت طبيعة كل من يملكون المزارع، وكانت المزرعة الثانية ملكا لعائلة روز، وهو اشخاص قدموا من الشمال واستقرو هناك من سنوات، كانوا قد جاؤوا معدمين، أما الآن فقد ملكوا هذه المزرعة وأشياء أخرى.
تسائل الجميع كيف استطاعوا هذا فقد عاش هنا مئات المعدمين بل وحتى أغنياء لكنهم لم يستطيعوا جمع وتكوين كل هذه الثروة في هذا الوقت الوجيز. لا أحد يعلم ما سرهم غير أن الحكايات شاعت بأنهم كانواةخونة، وأنهم قتلوا صاحب هذه المزرعة آنذاك واستولوا على أملاكه ، في حين قال آخرون بأنهم كانوا سحرة، وهكذا توالت القصص، وكانت المزرعة الأخيرة أصغر المزارع وكانت للسيدة إيزابيل، عجوز في الأربعينيات من عمرها، كانت بالطبع لا تزال سيدة لكن الجميع يناديها بالعجوز لبينية جسدها التي خرفت، وهزلت، كانت في صغرها أجمل نساء القرية وأقواهن غير أنها أصبحت الآن وبعدة مدة ليست بالطويلة لا تكاد حتى على حمل رجليها، لدلك جعلت من إبنها الوحيد آمرا على المزرعة، وكان هو فتى صغيرا لا يزيد عن الرابعة عشر، وعلى الرغم من عمره الصغيرة غير أنه كان قوي البنية وسريع البديهة، وكان يقوم على كافة أشغال المزرعة. بعد المرور بهذه المزارع توزعت مجموعة من المنازل على مسافة قصيرة،وبعدهم حانة الآلهة لم تكن بالحانة الكبيرة بل كانت حانة متوسطة، فكانت تتكون من طابقين الطابق التحتي وضعت فيه كراسي وطاولات قمار، أما الطابق الثاني فكان عبارة عن غرف للإيجار.
ربط ريان حصانه في إسطبل الحانة ثم دخل من الباب الأمامي الذي كان يقابل محل إقامة الشريف الجديد. كعادتها خاوية في الصباح، تمشى ليجل أمام ساقي الحانة رون أو كما يسميه أهل البلدة رون الشائب لأن وجهه يتوسطه جرح خنجر قديمة لا أحد يعلم كيف أصيب بها، لأنه عادة شخص مسالم لا دخل له في المواجهات والعراكات، وجده كعادته، بلباسه المعتاد، قبعة حمراء و سرواال أسود، وقميصه الأبيض الذي لم يغيره منذ مدة، الحقيقة أن ريان دائما ما يتساءل عن آخر مرة غير فيها قميصه، كان روني هذا شخصا كبيرا منذ بدأ ريان يتذكر الأشياء لذلك يقدر عمره الآن بالستين، غير أنه لا يزال يتمتع بشيإ من الرشاقة، حيث دائما ما يصنع لك شرابك في وقت وجيز. جلس راين إلى مقعده المعتاد في المكان المقابل للباب، حيى روني الشائب، ثم قال: اصنع لي شرابا يا روني. رد الآخر: كالعادة؟ أدأومأ ريان له بالإيجاب ثم جلس يفكر بينما روني يصنع له شرابه، كان يفكر فيها وعن العرض الذي يفكر في تقديمه لها، كان منذ مدة خلت يفكر فيها بكثرة و بكل الكلام التي كانت تقوله له، حتى الليلة الماضية فقد اتخد قراره النهائي بشأنها و بشأن عرضها.



كانت قد جائت قبل أيام تعرض عليه الهرب من هذه البلدة والذهاب في مغامرة لا حدود لها ربما تكساس قالت المهم نذهب من هنا، سآخذ ما أقدر عليه من المال ثم نهرب، لم يستطع أن يجيبها آنذاك غير أنه أصبح الآن يذرك ما عليه فعله، بعد تفكير طويل قاطعته جلبة أصدرها بعض من الداخلين إلى الحانة، أدرك أن شرابه كان موضوعا أمامه، لم يدر متى وضعه روني، استدار ليرى من يصنع الضوضاء، فرأى بعضا من الوجوه الجديدة، يدفعون الكراسي ويسقطون الطاولات إحتجاجا منهم على تأخر روني عليهم، فأصبحوا يرددون لما جلب لهم شرابهم لن ندفع لكم المال إن خدمتكم رديئة، مما لاحظ ريان فقد كانوا ثلاثة أشخاص، الأول طويل ذو شعر أحمر وأذنين مذببتين ووجه عريضة، والثاني شخص فصير ذو بنية جسدية قوية، نمت على جوانب شعره شعيرلت قليلة، وكانت معظم أسنانه قد سقطت من على فمه فكان لما يصرخ يثير اشمئزاز ريان، أما الثالث كان أكثرهم بشاعة فكان ذو عين واحد والأخرى غطاها بغطاء أسود ولحية سوداء زادته بشاعة أكثر لم يكن قويا ولا طويلا بل كان نحيلا قصيرا، ظلوا يصرخون في وجه روني الذي لم يقل شيأ بل ظل صامتا، لما أنهى ريان شرابه قام من كرسيه مغادرا، غير أنه اصطدم بالطويل منهم وسكب شرابه، نظر إليه الآخر باحتقان شديد وقال بكل عنف: انحني وامسح عني قطرات الشراب. نظر إليه ريان وقال بلهجة فيها أسف: أنا آسف، لم أتعمد إيذائك. دفعه الرجل الطويل و أشار لأصدقائه من ورائه ثم وضع يده على مسدسه وقبل أن يطلق أي منهم كان ريان قد سحب مسدسه وأطلق نيرانه تجاه مسدسات الآخرين وما هي إلا لحظة حتى سقطت مسدساتهم، أمسك ريان مسدسه في يده ونظر إليهم بكل صرامة، بينما تبادلوا هم نظرات خوف وذهول، لم لم يفعل أحد فيهم أية أمر آخر خرج ريان وأمسك جواده ثم انطلق بحصانه قاصدا الغابة عله يصطاد شيأ ما.
 
 
صهلت الجياد لما اقتربت من النار، صرخ إليون الكبير هوووو توقف، توقف جواده قرب النار، أين كان يجلس الآخر، نزل عن جواده ثم مشى نحوه، لم يرفع الآخر عيناه ليسلم عليه. بعدما مشى خطوات، واقترب منه حياه قائلا: مساء سعيد أيها القائد. رد الآخر عليه: كيف هي الأحوال هناك؟. زفر إليون الكبير وقال: حسنا مع مجيء هذا الشريف الجديد الأمور أصبحت صعبة، يقولون أنه أحضر معه عشرين باحثا. رد عليه الآخر: هذا جيد سنقتله هناك. هناك قال له إليون: دعنا نبتعد من هنا، ما دمنا نملك الفرصة لذلك، إن الأمور لن تنتهي على خير، وأخبرني لماءا تريد بشدة الهجوم على تلك البلدة؟ قال الآخر: ستعرف ما تريد أن تعرفه في وقته الآن إذهب وغادر، إرجع إلى القرية ولا تقم بأية شيء. قال إليون الكبير: حسنا لكن يبدو وكأن بعض الأشخاص أصبحوا يشكون في. قال الآخر: إذا احذر لا تنس ما نحن بصدد فعله. ثم نهض عن النار متجها إلى مكان نومه. راقبه إليون حتى إختفى في الظلام،ثم عاد إلى البلدة.
 
الجزء الثالث: الوعد
إن مجيء الليل بعد كل هذا النهار لهو أمر جميل، فبعد كل التعب الذي يحمله النهار، يأتي الليل ويغسله عنك. جلس ريان في باحة منزله، يفكر في هذه الأشياء، كيف هي غريبة هذه الحياة، وعما إذا كانت حياته ستروح بين الليل والنهار. ثم إنه بعد لحظات قام وحمل نفسه، تجهز بأحسن الملابس التي يملكها، كانت في الأصل تعود لأبيه، غير أنه لما مات فقد أصبحت ملكا له، كباقي الأشياء الأخرى. كانت علاقته بأبوه قد تدهورت في آخر أيام حياته، بسبب كون ريان كان يرفض مغادرة هذه البلدة، كان يفضل البقاء هنا حتى يصبح أسطورة مثل والده، الشيء الذي كان أبوه يكرهه. كان أبوه يصر عليه بالمغادرة والرحيل لإكتشاف العالم وكان يردد: العالم واسع يا ريان، لا تحشر نفسك في هذا المستنقع، اذهب ولا تعد. لكن ريان كان دائم الرفض، وفي كل مرة كان يجيء بحجة جديدة، الشيء الذي جعل أبوه يغضب، حتى أنه اصبح في آخر أيام حياته لا يأخذه معه للصيد او أية شيء آخر. وقف هناك يتذكر والده ثم إنه بعد لحظات قام ولبس قبعته، ثم ركب حصانه متوجها إلى الحانة، كان الوقت لا يزال مبكرا على موعده، غير أنه قرر شرب بضعة كؤوس قبل مجيئها. وبعد عدة دقائق وصل ريان إلى البلدة، وكانت البلدة في هذا الوقت وككل عام تتجهز لمهرجان”الربيع” حيث جرت العادة أن يقام مهرجان كل سنة في هذا الوقت، لم يصدق ريان كيف أنه أغفل شيأ كهذا، لأنه في هذا المهرجان قابلها لأول مرة. لا يزال يذكر المرة الأولى التي رآها فيها، لا يزال يتذكر ابتسامتها، وتحديها له، ذلك أنها جاءت إلى البلدة في وقت المهرجان برفقة أختها الصغرى وأمها واأبيها الشريف الفارط، كانوا قد انتقلوا إلى البلدة قبل المهرجان بأسبوع واحد، وفي الليلة الثالثة من المهرجان، على أن النهرجان كان يدوم لثمانية أيام، وبينما كان هو يستعرض مهاراته في التصويب في امام لعبة ” رصاصة و جائزة”، وقفت هي ورائه تنتظره أن يكمل، لما انتهى وكان قد ربح تلك الليلة مجسما لبقرة مصنوع من النحاس، استدار ليهم مغادرا، هناك رآها لأول مرة، كانت أجمل شيء يمكن للمرء أن يراه، كلوحة جميلة، أو أغنية مريحة، ظل ينظر إليها للحظات بنظرات مركزة وتواقة، كانت متوسطة الطول، ذات شفتين مملوئتين، ووجه ينصع بالبياض، انسدل على كتفيها شعرها الأصفر الرقيق، غير أن أكثر ما جذبه إليها كان عيناها، عينان سوداوتين قاتلتين، كفراغ الليل، وقف هناك يحدق فيها، في حين علت الدهشة محياها و من كان يحيط بهم، فما هي إلا لحظات حتى انفجر البعض بالضحك في حين رسمت هي ابتسامة خفيفة على وجهها، ونظرت إلبه نظرة خاطفة ثم أشاحت بوجهها بعيدا عنه، لم يقدر هو على الحركة فقط ظل هناك، غير أن يد صاحب اللعبة أيقظته من غيبوبته، لما دفعه من كتفه استدار هو لناحيته، ليزعق فيه الأخير: يا أمير الحب ابتعد إنك تسد الطريق في وجه اللاعبين، وهنا ضحكت هي ضحكة مسموعة، ابتعد ريان عن طريقها حتى تمر لتلعب هي الأخرى، كانت برفقتها تلك الليلة أختها الصغرى فقط. لكنه لم يبتعد قفد ظل هناك يراقبها كيف انها تسدد الرصاص، متأملا مظهرها الخيالي، جمالها كان يذكره بامرأة قيل عنها الكثير عنه، لقد كانت أمه بطبيعة الحال لا يتذكرها، فقط كان يعلم ما يقوله أبوه عنها، فلطالما تحدث وإياه عنها وعن جمالها الأخاذ وحتى عن قصة وقوعهما في الحب، ثم الزواج. وكانت على حد تعبيره أجمل نساء الكون. لما انتهت هي من اللعبة لاحظ ريان أنها أصابت نصف البقرات، كانت هذه اللعبة عبارة تحدي في إصالة مجسمات لبقرات صغار وضعن في آلة مربعة على طبقات وكل ست بقرات وضعن على سلك مختلف مكونين سبعة أسلاك لم تبدأ التسديد تبدأ الأسلاك في التحرك بسرعة جيئة وذهابا وعلى المسدد إصابة كل البقرات بالرصاص المتوفر لديه، بالطبع كانت لعبة سرعة بالدرجة الأولى وكذلك لعبة دقة. اقترب ريان منها قائلا: حسنا ليس سيأ، لكن علبك التركيز أكثر، تمتلكين السرعة لكن تنقصك الدقة. استدارت نحوه قائلة: القول سهلة بالنسبة لك، لكن التسديد شيء آخر. نظر إليها لوهلة، كان لحد الآن لا يزال سكرانا بجمالها، ثم قال: هات لأريك. مدت إليه البندقية في حين رمى هو قطعة المال لصاحب اللعبة ثم قال: ضعها فس السرعة القصزى، وكذلك كان، فقد حرك صاحب اللعبة المربع خمس مرات ليضعه في أقصى سرعته، ثم بدأ ريان في إطلاق النار، كان سريعا جدا لدرجة جعلها والحاضرزن مندهشون، لما توقف المربع عن الدوران كانت كل االبقرات قد سقطت. نظر إليها ثم قال: حسنا يمكنك أخذ الجائزة. لما انتهوا من اللعبة كانا يسيران جنب بعضهما وقالت هي شاكرة: شكرا لك، لقد كنت رائعا هناك بحق. رد هو: حسنا كل شيء من أجلك رائع، ابتسمت هي، في قال هو: اسمي ريان فماذا عنك؟ ردت هي: ليسا، قال هو: با له من اسم جميل،وكيف لا وانت صاحبته، أين تكونين يا ليسا؟ ابتسمت هي لكلامه ثم قالت: أنا ابنة الشريف الجديد، وها هو هناك يناديني، تشرفت بمعرفتك حقا يا ريان، م غادرت.والآن ها هو يمر عام كامل على تلك اللحظة، لقد تغير الكثير مذ دلك الوقت، لا شيء يدوم للأبد، بل الأشياء الجميلة لا تصمد أبدا، حتى أن الإنسان دائما ما يتمنى عودة الماضي ليعيشه مرة أخرى، جلس هناك في أقصى الحانة على يمين باب الحانة وفي يسار مكان المشرب، في طاولته المعتادة، وكما هي عادتها مكتظة في الليل، فجلس في الطاولة امامه لينون ولوي وهما شابان لا يتجاوزان الثامنة عشر يجلسون هناك كل ليلة فقط لمراقبة الفتيات، وعلى يساره جلس أولي وأصحابه الثلاثة الآخرون يلبعبون الورق، كان أحدهم يصرخ كثيرا تلك الليلة، ربما لأنهم كان يخسر او لأنه عصبي المزاج، فكان دائم الصراخ في الآخرين، جلس قربهم أصحاب قدام لوالده العم لونين و سان، حياهم لما رآهم كانوا أكثر الأشخاص مقربة من والده وكانوايعملون دائما معا، لا يزال يتذكر ريان كيف أنه ساعدوه بعد وفاة والده، وهكذا جلس أناس متفرقون في الحانة، كان إلياي منهمكا في العمل بين طلب هذا وذاك، وكانت تعم الحانة نوع من الضوضاء كان ريان يحبها دائما، حينما يشغل تفكيره شيء فبالإضافة إلى مسألة ليسا، كان شيء آخر يشغل باله، لقد كان عرض الشريف له. كان حقا يزعج تفكيره. جلس هناك لقد اقترب وقت حضورها، لما كان أبوها لا يزال شريفا كانت تأتي هنا مبكرا، لكن الآن وقد اختفى لم تكن تجيء حتى الليل، لأنها كانت دائما ما تسهر مع أختها حتى تنام. جالس هناك ورأسه للأسفل غارق في تفكيره، حتى نقرت رأسه بإصبعها معلنة حضورها وقائلة: ما الذي يشغل بالك يا ريان إني أراك تفكر كثيرا، قام من مقعده وقبلها، ثم جلست جنبه كما كانا يفعلان، فقال: كيف حالك؟ ردت: لا أعلم يا ريان، لم نعد نسمع أخبارا عن ابي، اخاف على أختي وعلى نفسي، أخاف عليك، لم أعد اعرف. ضمها إليه ثم قال: سينتهي كل شيء قريبا وسنغادر من هنا، فقالت هي: إذن فقد فكرت في عرضي؟ قال هو: نعم، أنا موافق على المغادرة، أنا وأنت وأختك. صرخت هي بأعلى صوتها حتى سمعها كل من في الحانة: وووووو، هذا ما كنت أريده، شكرا لك. فقال هو بعد ان هدأت: لكن هناك شيء يجب أن أفعله قبل أن نغادر، ردت وبدا التوتر يعلو محياها: ما هو؟ قال هو: حسنا لقد جائني الشريف في ذلك اليوم وعرض علي شيأ، قال أنني إذا ساعدته في القبض على المجرم، فإنني سأنال نكافأة كبيرة و.. قاطعته هي: أنت تعلم أن هذا غير ممكن، ريان تذكر ما حدث لأبي واللذين ذهبوا معه، تذكر والدك، كلهم ماتوا ولم يرجع أحد. قال ريان وهو ينظر إلى عينيها: لقد قال الشريف أن احتمالية أن ابوك لا يزال على قيد الحياة عالية، لم ير أحد جثته على عكس أبي، وإننا نحتاج المال.. تجمعت في عينيها قطرات دموع، ثم قالت بنبرة خافتة: أبي لا يزال حيا، قال هو: سأذهب معه حينما، ينتهي المهرجان. صمتت لبعض من الوقت، ثم قالت: إذا لم تعد تريدني، أصبحت تفضل الموت علي هاااه. نظر إليها بعطف ثم قال: لا يا ليسا، إن كل هذا من أجلك…صرخت غيه بحدة مقاطعة إياه: إذن لا تفعل يا ريان، إبق لنغادر ونتزوج، ونهنأ. صمت ثم قال: لقد أخبرته أني سأذهب لم بعد هناك مجال للتراجع، قالت بعد أن أنهى كلامه: كاذب، أنت كاذب، كل ما تفعله من أجلك، ليس لي بل لك. ثم قامت مغادرة حاول هو إمساكها من يدها، لكنها فلتت منه. جلس ريان تلك الليلة هناك يشرب الخمر، وأي شيء أفعله الآن غير الشراب، هكذا كان يردد لنفسه.



 
زكريا عبد اللوي – مدينة وجدة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :