عبد الصمد التركاوي يكتب: غربة الياسمين.. رواية الغربة والضياع

9 أبريل 2020
تحليل الغلاف:
جُمع المؤلَّف بين دفتين سوداويتين تقريبا، وقد تكون في ذلك إشارة إلى التشاؤم وفقدان الأمل، أما الصفحة الأولى من الغلاف فهي لوحة فنية عبارة عن ظل امرأة يظهر منها الجزء العلوي فقط؛ من أسفل العنق فما فوق. تبدو شاردة، على عنقها عقد أحمر رقيق كرمز لزينة مبتذلة وسط كل هذا السواد.. بينما تنطلق من رأسها طيور محلقة وكأنها تحررت لتوها طالقة لأجنحتها العنان نحو السماء التي قد تعبر عن فضاء حر فسيح. وفِي هذا إيحاء إلى أن المرأة هذه عبارة عن كيان يسعى وراء التحرر والانعتاق، والقصد من التحرر هنا تحرر على المستوى الفكري والمعرفي مادامت الطيور تحلق من رأس مظلم إلى سماء مضيئة؛ في إشارة للخروج من الظلام إلى النور، من الخيال إلى الحقيقة.. ولابد أن الظلام علامة على الجهل -ولو بأشياء معينة-، على العدم، على نقيض الحقيقة. علاوة على أن رأس المرأة بهذا الشكل علامة على عقل يجمع في عمقه أفكارا مأسورة ترجمها مصمم الغلاف إلى طيور مهاجرة تبحث عن الأمان والصفاء والطهر.ولا يفوتنا التعريج على خلفية اللوحة؛ التي هي عبارة عن صورة لمدينة باريس ببرجها العملاق، يغلب عليها لون أصفر باهت، وكأن صاحب اللوحة يرفض تسميتهابــ “مدينة الأنوار”؛ ربما لأن عبارة “الأنوار” تحمل دلالات أخرى غير الذي نفهمه!أما الدفة الثانية فخصها المؤلف لمقتطف من الرّواية يحوي عصارة مايقصد إليه ويروم.يوجد أيضا اسم مصمم الغلاف “عبد الرحمان الصــــــــــــــــــــــــــواف”،
 
ورمز دار النشر “كيان للنشر والتوزيع”، بالإضافة إلى اسم المؤلف، وعنوان الرواية اللذين كتبا بخط عريض على الدفتين معا، حيث آثرت المؤلفة على نفسها -ربما في اتفاق مبرم مع المصمم- أن يكتب اسمها بخط عادي، لكن تعمدت كتابة العنوان بخط عربي أصيل زاده اللون الأزرق زينة وبهاء وعمقا. تلوح من خلاله بعض الإشارات التي قد تكون محور الرواية ككل من قبيل التمسك بالهوية والحفاظ عليها رغم تحديات هذه الغربة المعلنة وماتفرضه من محدثات ومغريات قد توسع الهوة بين المغترب وهويته.
تحليل المضمون ومناقشته:
تدور أحداث الرواية بين ليون وباريس، أما أبطالها فمن شمال افريقيا.. من هنا قد تلوح للقارئ خيوط صراع بين طرفين أخذا بالاعتبار أن التاريخ لايذكر ماضيا ورديا بين دول الشمال ودوَل الجنوب، أو بين أوروبا وإفريقيا بتعبير أوضح، لكن كيف هو هذا الصراع؟ هل هو صراع اقتصادي، أو سياسي، أو عرقي،أوديني، أو أيديولوجي؟-إن أوجه الصراع لا حصر لها-. وكيف ستكون مآلاته؟ هل تحيي الرواية هذا الصراع؟ وفِي حالة ما إذا خابت الافتراضات هذه، فما نوع العلاقة التي ستجمع بين هذه البلدان بشخوصها في رواية واحدة؟ هذا ما سيتوصل إليه القارئ الشغوف بروح المغامرة، الذي لا ينفك يسبر أغوار الرواية موغلا في تفاصيلها الضيقة، بدءا من التسمية “غربة الياسمين”.. لماذا هذا العنوان بالذات؟ تتبادر إلى أذهاننا مفردات الغربة والمهجر والمعاناة والتمييز.. فتسبقنا الكاتبة لتأويل خاص يبدو أقرب إلى الصواب، وربما حتى إلى القصد من الرواية.. “الياسمين نبات لايحتاج إلى الكثير من العناية.. تكفيه دفعة واحدة من السماد في ربيع كل عام، وتربة رطبة دون فيض من السقايا”(1). بعد الغوص البدئي في عمق الرواية سنكتشف أن ياسمين شابة تونسية الأصل، والمنشأ من أبوين مطلقين.
إذنمانسبة الارتباط الحاصل بين العنوان واسم الشخصية؟!إنالأم فاطمة آثرت على نفسها البقاء في فرنسا بعد فشلها الذريع في الاندماج داخل المجتمع الفرنسي؛ الذي لا يمت لثقافتها بصلة، بل يحاول طمس هويتها وخلخلة معتقداتها..هكذا كان شعورها دائما؛ الشيء الذي كان سببا في طلاقها من الزوج عبد الرحمان، والعودة بابنتها للعيش في تونس بلا أب يغدق على ياسمين عطفه وحنانه. يستوقفنا هنا سؤال مُلح لا يقبل التأجيل؛ هل يكون الصراع المزعوم حول القيم؟ أو هل يشن الغرب حربا على قيم العالم الثالث؟! إنه مشهد كلاسيكي شيئا ما، لكن الفضول سيدفعنا لمعرفة المزيد.
إنالأب انتحل فيما بعد جنسية فرنسية، واسما فرنسيا كذلك “سامي كلود”؛ الدكتور والمحاضر الذي داع صيته في المعاهد والجامعات الفرنسية والأوروبية كذلك.. ليبدأ حياة جديدة. تزوج من “إيلين” التي حصل منها على مولودين جديدين “ريان” و”سارة”، ذوي البشرة الناعمة، والسحنة الشقراء.هكذا أصبح يعيش حياة فرنسية صرفة، خالية من المضايقات التي كانت تعترض سبيل ذوي البشرة السمراء الشرقية في السنوات الأولى من العقد المنصرم.هاهي الكاتبة الآن تضعنا أمام صراع حقيقي دون أن تدع لنا مجالا للشك..هناك على مايبدو نزاعات عرقية بين عرب إفريقيا و”غربيي” فرنسا على وجه التحديد؛بِعَدِّهم أهل البلد المستضيف، والذي -ربما- لن يحسن الضيافة.
على الضفة الأخرى “تونس”كبرت ياسمين، فشقت طريقها نحو المستقبل المجهول إلى أن وجدت نفسها مضطرة للذهاب إلى فرنسا قصد استكمال دراستها هناك في شعبة علم الاجتماع، وتحضير الدكتوراه حول ظاهرة الانتحار..أما رنيم فمحامية صاعدة تنحدر من عائلة ميسورة الحال في مصر بلدها الأم، وجدت لنفسها مقعدا مريحا في شركة للمحاماة بعدما تخلى عنها “ميشيل”؛ الذي أحبته حد الهوس، وأهدته كليتها التي كان سيفقد حياته بدونها عله يهديها قلبه، لكن على العكس لم يتردد في رفضها.بَيْد أن الدائرة ستدور ويأتي خلفها إلى باريس مقر عملها الجديد؛ ليهيئ لها مفاجأة أسطورية في أحد أفخم فنادق باريس طالبا يدها للزواج على ضوء الشموع وإيقاع موسيقى كلاسيكية.. إلا أن رنيم التي تخلى عنها سابقا وهي في أمس الحاجة إلى عطفه وحبه قد تغيرت كليا في الفترة الأخيرة وأصبحت أكثر قوة وحزما بعد حصولها على عمل مريح وصديقة رائعة تتقاسم وإياها إيجار الشقة ومشقة الحياة؛ ياسمين -التي قادتها الصدفة إلى التعرف على رنيم- رفضت عرضه دون أن يرف لها جفن، غادرت الفندق وتركته فارها فاه من هول الصدمة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عامل الصدفة يلعب دورا محوريا في الرواية ما يزيد قالبها توازنا وتناسقا من حيث تناسل الأحداث ورفع درجة الإثارة؛ مايعمل على شد انتباه القارئ، وتعزيز ارتباطه بالرواية، وإشعاره بأنها تعنيه بنبشها لأشياء في شخصيته وخصوصياته النفسية والاجتماعية.
عمر رشدي شاب من مراكش المغرب “مدينة البهجة”، قاده قدره للعمل بشركة للكيميائيات بمدينة ليون، يأبى الاندماج في المجتمع الفرنسي بشكل قد يبعده عن دينه أو ينسيه هويته أو يدفعه للتخلي عن قناعاته، ذاك ما يجعل علاقاته بزملائه في العمل محدودة.. إنسان ملتزم، قارئ شغوف، على درجة عالية من الذكاء والإبداع في العمل، خلال رحلاته اليومية -الروتينية- من العمل إلى المنزل أو العكس سنحت له الفرصة بالتعرف على ياسمين خلال فترة بحثها عن عمل يناسب موضوع أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه، وبما أن القرّاء يعرفون بل ويفهمون بعضهم اكتُنز في قلب كل منهما إعجاب مُضمر ومحبة، لكن سرعان ما ستنقطع هذه اللقاءات التي كان ينتظرها كل واحد منهما بفارغ الصبر، لما تجد ياسمين عملا بإحدى الشركات بباريس.كانت بحاجة لأسبوع كامل هناك تبحث فيه عن منزل للإيجار قضته رفقة عائلة الخالة زهور التي وجدتها فتاة مناسبة لابنها الذي يود الزواج من فرنسية يحاول إقناعها بدخول الإسلام. قبل الرجوع إلى ليون قصد جمع الأغراض بحثت كثيرا في عربات المترو علها تصادف ذاك الشاب الوسيم “عمر”؛ الذي لم تسمح لها الفرصة حتى لسؤاله عن اسمه نظرا لحالة الارتباك التي كانت تعترض كليهما عند كل لقاء.لكنها لم تعلم أن هذا الشاب المسلم الذي أثار إعجابها كان في قلب شركة الكيميائيات التي تعرضت منذ أيام لتفجير عنيف بسبب اختراعه الجديد الذي كان سيحدث ثورة علمية في مجال الكيميائيات وهو اختراع “مولد الطاقة المتجددة”. راح ضحية الانفجار ثمانية من زملائه في العمل.هنا معرض الحدث الذي ستُشد له الأنظار؛ ربما هذا الحدث سيشكل بؤرة التوتر في الرواية مادمنا نسلِّم بوجود صراع عرقي خفي بين أطراف معينة؛لأن حدث انفجار بفرنسا أو أوربا عموما في السنوات الأولى من القرن الجاري يطرح علامات استفهام كبيرة حول منفذ هكذا عمليات، ومادامت تلك الفترة غنية ببعض المفاهيم السياسية الجديدة، وعلى رأسها كلمة “إرهاب”، والتي بمجرد ذكرها تتبادر الى الذهن أفكار قاتمة عن الإسلام والمجتمعات المسلمة نسجتها سياسات غربية مقيتة، فروج لها إعلام مضلل طبعا يسيل لعابه لأحداث كهذه، فإن أصابع الاتهام ستتوجه إلى عرب أوربا ومسلميها الذين قادتهم دروب الحياة للعيش هناك. وسيكون على رأس المتهمين طبعا عمر رشدي الذي نجى بأعجوبة من هذا الانفجار الذي اهتزت له أركان فرنسا وأروبا كلها بعد أن التهمت ألسنة اللهب معظم أنحاء جسمه. كل القرائن والإثباتات ضده، ليس له مخرج من هذه الورطة..
عمر الشاب الحاذق الذي كان يكره تشويه صورة دينه بأعمال بديئة كهذه، هاهو الآن يواجه قدره بتهمة الاٍرهاب، متسببا في تعزيز هذه الأفكار التي لطالما حاربها في محاولات متواضعة منه لتصحيحها أمام زملائه.. لكن لا أحد يعلم أن عملية التفجير كانت مخططة بشكل مسبق من جهات نافذة في الشركة وفِي الدولة أيضا. ربما يرى المؤلف في ذلك خدمة للتوجهات السياسية العالمية، وقد لايعدو ذلك أن يكون مجرد احتيال من جهات معينة داخل الشركة أو خارجها، ارتأت أنه من غير العدل أن يأتي شاب عربي “مسلم” من الجنوب -المغرب-، يحمل ثقافة تبعث على التخلف، ويؤمن بأفكار بائدة تمنعه حتى من تقاسم كأس شامبانيا مع زملائه في العمل ليظفر بتألق كهذا في عقر دارهم، فقررت توقيع الإنجاز باسمها. هكذا ستكون هذه “الجهات قد أصابت عصفورين بحجر واحد، تسرق براءة الاختراع، و”تشوه صورة الإسلام”؛الذي أصبح كابوسا يقض مضاجع المواطنين هناك.سيكون لرنيم حظ المرافعة في قضية عمر كأول قضية في مسارها المهني.. ستعرف فيما بعد أن عمر هذا هو نفسه الشخص الذي حدثتها عنه ياسمين في تلك الليلة -ليلة التعارف-، لكن كان الوقت قد فات لأن إيمان رنيم ببراءة موكلها وطريقة هذا الأخير في الدفاع عن نفسه وتشبته بالحرية ونمط عيشه وتفكيره كلها كانت تأسر قلب رنيم المحامية المحنكة الصاعدة التي لا يشق لها غبار في جلسات المحكمة.أما ياسمين فقد كانت قد أسلمت نفسها لفكرة الزواج من هيثم ابن الخالة زهور بعدما انتهت علاقته بصديقته الفرنسية التي أثقلت كاهلها تعاليم الإسلام وتطبيقاته.
استنفدت رنيم كل ما تملك من قوة وحنكة لإثبات البراءة، لكن لم تفلح؛ إذ حكمت المحكمة بعشرين سنة نافذة يقضيها عمر في سجون الذل. رغم ذلك لم تستسلم؛ حيث بدأت البحث عن قرائن جديدة للاستئناف فظهرت أمامها كارولين؛ كانت زميلة عمر في الشركة،وهي المسؤولة عما حصل؛ وضعت محاليل قابلة للانفجار في المولد الذي صنعه عمر بأمر من أناس آخرين لم تجرأ على ذكر أسمائهم خوفا على حياتها… تعود “رنيم” الى مصر مرغمة بطلب ملح من والدها قصد الراحة لمدة، فتغلَّق أبواب السجن على البريء عمر.
لقدخُتمت الرواية دون سابق إشعار!!
تُرى لماذا انتهت الرواية على هذا النحو، وعند هذا الحد؟! ربما كانت هناك أحداث أخرى أكثر أهمية!.. إن القارئ لاشك سيتوقع نهاية محددة، على قدر فهمه وتوجهاته ونفسيته.. لكنه سرعان ما سيصطدم بهذه النهاية الباردة في عز الانفعال وتراكم الأحداث؛ ما يدفعنا إلى التساؤل:هل تفكر الكاتبة في إصدار جزء ثان للرواية، أم تتبع التوجه الحديث في أدب الرواية والقصة؟ والذي يعمد إلى تكسير أفق الانتظار لذى المتلقي، مستندها في ذلك ما أومأت إليه نظرية التلقي؛ هذا التوجه النظري الجديد الذي يكسر نمطية الكتابة ومنها إلى نمطية المتلقي.
إن هذا الكائن الانفعالي الذي يبحث دائما عن المعنى داخل تفاصيل النص معتمدا في ذلك على تجاربه الحيوية الخاصة، وحالته النفسية ومرجعياته-عن غير وعي-، محاولا إسقاط مضمون النص أو على الأقل أجزاء منه على شخصيته ليشعر وكأن الرواية تتحدث عنه بشكل قصدي.. إِنْ هذا أو ذاك؛ فإن الكاتبة قد سافرت بِنَا في عوالم الغربة بتحدياتها وروح المغامرة بتجاربها، بنجاحاتها وإخفاقاتها…إلى حد يشعرنا بالاغتراب في معرض النص، والتيه في دوامة أحداثه المركبة والانفعالية، ما يدفعنا إلى اِلْتهام الحروف والكلمات بكل شراهة رغبة منا في بلوغ النهاية ولو بنفس واحد، لنصطدم بكونها نهاية غير متوقعة.
على العموم فإن الكاتبة قد نجحت إلى حد كبير في شد انتباه المتلقي أثناء القراءة، وإرغامه على تتبع خيوط الرواية حتى آخر عبارة، عن طريق منهجية فريدة في الكتابة؛ حيث التشويق والإثارة والعزف على وثر الإبهار من خلال لعبة الصدف التي كانت سيدة الموقف، والتي زكت الإحساس بالمتعة والفضول لمعرفة القادم من الأحداث.. سيكون طبعا هذا شعور كل من حالفه الحظ في قراءة هذا العمل الذي يعكس واقعا مريرا معيشا، في قالب فني يبلغ هذه الدرجة من الحبكة والإبداع.
(1)- غربة الياسمين: دة. خولة حمدي، دار كيان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2015، ص: 39
عبد الصمد التركاوي
أستاذ التعليم الابتدائي . باحث في علم الاجتماع. المغرب

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :