عبد الباسط بوشنتوف يكتب: فاطنة

18 يناير 2020
إهداء إلى نساء المغرب العميق
( في البداية خلق الله آدم من طين، سواه فعدله، ثم نفخ فيه من روحه فصار بشرا، ولما فتح عينيه على الجنة لم يملأ جمالها قلبه، ظل يحس بكثير من فراغ يشغله، فخلق له من ضلعه الأيسر حواء، رآها أول مرة فأحبها، كانت امرأة كاملة الأنوثة، بشعر منساب كليل، وعينين سوداوين ونهدين بارزين، كان من السخرية أن تخرج من جنبه الأعوج طفلة كلما مد يده ليلامسها أحست بالخوف ينساب من بين أنامله، فيتسلل إلى جسدها الصغير جدا، ترتاب إذ هو فتح حضنه الدافئ ليغمرها حبا، تخاف كلما سمعت صوته من خيام الجنة تناديها أنه اشتاق لرؤية العالم من خلال عينيها البريئتين، كان من السخرية أن يخلق الله له من ضلعه الأيسر صبية، تنشغل عنه طول الوقت بصناعة دمية من عيدان شجر الجنة وتخيط لها ثوبا يستر عورتها من ورق السدر، وإن هو أرادها لفراشه أوهمها أنها لعبة عريس وعروس. )
قالت أمي: عرس فاطنة اليوم.
وقالت خالتي: غدا تزف لبيت زوجها.
وقالت أختي: مسكينة.. حظها العاثر ألقى بها في حضن رجل عجوز.
كنت أستسلم للنوم حينها، فلم أهتم بكلامهن، غطيت وجهي باللحاف الصوفي وأوليتهن ظهري، مثلما فعلت بفاطنة ذات وداع.
– صعب أن تحب فتاة بدوية أنت الذي ولدت في المدينة وكبرت بين شوارعها.
هكذا حدثتني نفسي مقنعة إياي بتركها، وتفرقنا دون أن أذرف دمعة أو أقدم عذرا، ما مددت يدي لأكفكف دمعتها ، وانصرفت إلى المدينة غارقا في فوضى الشوارع وزعيق السيارات، فإذا ما جن الليل، تذكرتها. يومان بالبادية أسكنا صورتها صدري، أنا المولع ببنات المدينة صويحبات الجينز والكعب العالي، لكنها كانت مختلفة، تطل وظلمة الفجر من خلف ستار الخيمة، بثوب طويل يستر جسها المرمري، فينقشع النور من سحر جمالها، شعرها الأشقر المارق من خلف طرحة رأسها، خداها المتوردان عشقا، براءتها المنثورة على محياها، جعلتني أسعى إليها دونما تردد، كنت أختالها إن هي توجهت للسقي، أو رافقت غنماتها إلى عين الماء، أطل عليها من ثقب الخيمة فأرقبها وهي تفتل الكسكس، تضع القدر على النار، تعد فنجان قهوة على هجيع الفحم… وحين أحست بوجودي خلفها أومأت إلي أن نلتقي عند ضفة الوادي، وجلسنا نفترش الأرض جنب بعضنا طفلين نخط على التراب طريقا طويلة، وعليها وضعنا حصوات صغيرة…
• أتحبني.
قالتها خجلة.
فأجبتها :
– أحب والدك الذي فصلك من الدراسة قبل أن تتمي القسم السادس خوفا عليك من عيون المعلمين.
• أبناء الكـ…. كلما نظرت إلى أحدهم أجده يأكلني بنظراته.
• ليسوا جميعا
• بل حتى المدير بصلعته التي كادت تضيء ليلا حتى وإن لم تمسسها…
أقاطعها ضاحكا:
• وحارس الباب مول الفعايل أيضا….
قامت ضاحكة، ثم جرت جنب الوادي داعية إياي أن ألحق بها، أعجز عن ذلك، أتبعها بعيني، بخاطري، بقلبي المرتعش، ثم ألقي جسدي المثقل بخواطر الفراق على الأرض، أغمض عيني وآخذ نفسا عميقا، ثم أخرجه صرخة تصل سمعها المرهف.
• أحبك ولكن كان ما….
****
… كان، وستزفين اليوم عروسا لرجل في عقده السابع، أنت التي ما زلت في عمر الزهور.
****
قال السارد:
لكن كان ما كان، وقبل أن تزف لبيت زوجها الطاعن في السن، صَرَّتْ أمتعتها في قطعة ثوب، وأخذت بعض خبز وقليل ماء وهربت إلى المدينة، باتت اليوم بطوله تقطع الشوارع والأزقة حتى أحست بالعياء، فجلست على قارعة الطريق تنتظر قدرها، وقبل غروب الشمس بقليل وجدت يدا مرتعشة تمتد إليها، امرأة عجوزا في عقدها السابع دعتها لبيتها…
****
قال الكاتب:
لكن كان ما كان، وستزفين اليوم عروسا لرجل في عقده السابع، أنت التي ما زلت في عمر الزهور، وتسألين عنه فتعلمين أنه ينتظرك بغرفة نومكما، تفتحين الباب، تدلفين ثم تغلقينه خلفك بسرعة دهشة، تشاهدينه يصارع الموت بين يدي حبيبك، يحكم عليه الخناق، والشيخ المحزون ليلة فرحه يحرك ساقيه ويديه عابثا، ثم يخمد النفس، وتبيتين الليل في حضن حبيبك وقبل الفجر تقفزان من النافذة، تهربان، تخاف أسرته من الفضيحة، فيعلنون أن الشيخ مات ليلة دخلته بذبحة صدرية، وفاطنة….
فاطنة ابتلعها الظلام، فاطنة رفعها الله إليه…
****
قالت فاطنة:
لكن كان ما كان، ولن أزف اليوم عروسا لرجل في عقده السابع، أنا التي ما زلت في عمر الزهور، سأجلس أندب حظي العاثر، ألطم خدي اللذين توردا حبا، أشق صدري المزهر عشقا، ثم ألف على جيدي حبلا، أشده حتى ينقطع النفس، وتخمد جمرة الفؤاد….
****
قال قارئ:
أحبك و لكن كيف السبيل إليك فاطنة .
.
.
عبد الباسط بوشنتوف
قاص وشاعر من مدينة فجيج

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :