سمية حراز تكتب: تحت درجة الصفر

9 أبريل 2020

تلك القمم تبدو شاهقة من هناك، تعلوها غيوم رمادية كأنها تقول بلغتها الامازيغية ” أَنْزَار نْ الخير إدَّادْ” أمطار الخير اتية..
توقفت الحافلة لتنزل منها، شعورغريب يغمرها بين حنين لتلاميذها الذين فارقتهم خلال العطلة الشتوية كأم فارقت فلذات كبدها مُكرهةً، و بين حزن لفراق أهلها لمدة ليست بالهينة بسبب وعورة التضاريس الاطلسية، التي تعوق مجيئها بين الفينة و الاخرى.. طال انتظار السيارة التي ستقلها الى محل سكناها على علو يناهز١٦٠٠ متر على سطح البحر ..ها هو ذا السائق أخيراً.. يعتذر عن تأخره…و تردُّ باختصار “لا مشكلة”.. انطلقوا في اتجاه ‘الدوار’ لتبدأ أحاديث الركاب التي لا تفقه فيها شيئا فالسَّنة التي قضتهاا بين السكان الأمازيغ لم تشفع للسانها العربي أن ينطق لغتهم، ربما هو عقاب على تجاهلها لها قبلاً ..سهت تتأمل المنحدرات التي أخذت نصيبها من الخريف فما بقي من الشجيرات غير بعض الأغصان و وريقات صفراء فاقع لونها تداعب بعضها و هي تستمتع بالرياح تهدهدها. وهناك تلك السيدة الستينية تحمل لترات ماءٍ على ظهر حمار ووجهها الشاحب يعكس يومها الشاق من فجره الى عصره، لكنها لا تجد للشكوى سبيلا، فالنساء الجبليات ألِفنَ عملهن ذاك بل وتجدن فيه لذة افتقدنها نساء المدينة. هنَّ فعلا مَن تَعينَ أن العمل عبادة.. أحست ببرد شديد انتشلها من حالة التأمل تلك…فأدركت أن الثلج سيحل ضيفا على قمم الاطلس هذه الليلة كما توقعت الارصاد الجوية…لكن صفاء الجو في مدينتها أربكها لتتوقع تأخرها لأيام أخرى، مكذبةً تلك التوقعات التي ما فتئت تتحقق في كل مرة.

 ما أن طأت قدميها أرض قمة من قمم الاطلس المنسي حتى تساقطت أولى حبيبات الثلج كأنها من الشوق إليها رحبت بها بطريقتها ناسجة على أراضيها بنصاع بياض الثلوج: “مرحبا إيسون غورخ” “مرحبا بك على أرضنا
أكملوا الطريق مشيا على الأقدام لصعوبة إكمالها بالسيارة فقد جعل منها المطر و العيون في جوف الجبل خلال أيام مضت، أخاديد للوحل تُعسر التنقل على الماشية كما الساكنة، أما السيارة فلن تتقدم خطوة عليها وإلا ستقبع في أسفل المنحدر. وصلت الى المنزل و كانت يداها قد فقدتا القدرة على الحركة. جسدها النحيف يرتجف، أخذ من الزرقة ما يجعلك تعتقد أنها جثة هامدة.. ساعدتها جارتها إيطو التي تكتري لديهم على إشعال النار للتدفئة فلازالت لم تعتد بعد على طقوس المنطقة الشتوية، كما أنها لم تُجارِ قدرتهم على تحمل البرد القارس، جلست تغازل النار بكفَّيها لعلها تستعيد بحرارتها الحركة. ثم قامت تصلي صلاة العصر بعد أن أخرت موعدها لأكثر من ساعة.. ما أن أنهت صلاتها حتى أخذت تقرأ ما تيسر من القرآن الكريم. لكن إيطو قاطعت جلستها الروحانية تلك، لتقدم لها الشاي الساخن بالأعشاب الجبلية حتى تُبدد من قساوة البرد الذي أفقدها القدرة على الحركة كما الكلام .. كيف لهؤلاء الساكنة في أعالى الجبال تحمل كل هذا؟! لربما هي قوة خارقة توارثوها أبًا عن جد ..طبعا فهم رمز المقاومة منذ عهد المستعمر الفرنسي، و لنا في معركة “الهري” خير مثال ..فعلا أغبطهم فنحن لا نعاني نصف ما يعانون و نقضي حياتنا في الشكوى و الملل و التذمر.
لم يكن الثلج قد غطى سنتيمترات من الأرض بعد… لكن في الصباح ما إن اسيقظت استعدادا لأول أيام العمل بعد العطلة حتى فوجئت بالبياض يغطي أكثر من النصف متر، حيث لم تتمكن من فتح الباب إلا بمساعدة إبن ايطو الأصغر، كانت المرة الأولى التي تتشرف فيها برؤية هذا الضيف، دون أدنى شك أنه ضيف، فجُلُّ ساكنة الجبل تستعد لاستقباله كما يليق بمقامه، حيث يشترون المؤونة الكافية خلال الإقامة الجبرية التي يفرضها الزائر الابيض، على الرغم من علامات الفقر التي تطبع أغلب العائلات، فيكفي أن تنظر من بعيد لترى المنازل الطينية المتفرقة و ملابسهم الرثة، لتدرك مدى معاناتهم. لم تدرِ هل ستستقبله كذلك بنفس حرارة استقبالهم له؟ أم أنها ستكتفي بابتسامة تُبدي فرحتها و تخفي بين ثناياها قلقا بشأن جهلها لتلك الطقوس التي ترافق تساقط الثلوج؟ تمتمتْ إيطو بكلمات جعلتها كعادتها تبتسم..فقد تبنت الابتسامة لغة يُفهم من خلالها :”أعتذر، لم أفهم قصدكِ” لتنادي على ابنتها التي غالبا ما تقوم بدور الترجمان عندما يتعذر التواصل بينهما ..حيث قالت “لا تقلقي بنيتي سأساعدك على إشعال النار للتدفئة كي لا تضحينَ كتلة من الجليد من شدة البرد” فابتسمتْ مؤيدةً.. طبعاً فلا عمل اليوم لأن التلاميذ لايستطيعون الحضور في مثل هذه الأجواء، فأبدانهم النحيفة لن تقوى على مجابهة قساوة الزمهرير…كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا لكن إيطو -تلك السيدة الأربعينية نحيفة الجسم، وجهها ذو تجاعيد زادها وقارا يحكي سنوات من الشقاء- ولجت منزلها على غير عادتها، حيث تستيقظ كل يوم مع أول صيحة ديك لتمنح جفونها أول حركة صباحية، لكي تبدأ يوما ملؤه العمل..ترعى الماشية و تأتي بالمياه من العين ثم تجمع الحطب للتدفئة و الطهي و غيرها من الأعمال التي ستقف منبهرا لقدرتها عليها دون أن تمل أو تكل. و مثلها كل نساء الجبل فقط تكتفينَ بقول: “هذا قدرنا لا مفر منه” أصدقوني القول، بالفعل إنهنّ تستحقن جائزة نوبل على صبرهن الغير مشروط.
علت صيحات من بعيد، لا شك أنها نسوية، أتراه موت؟! أم انهيار سقف؟! أي سوء حظ هذا؟
قدم إبن إيطو بالخبر اليقين، إنها شابة على وشك وضع جنينها، لكن الولادة تعسرت مما يستدعي تدخل الطبيب. أسرعت رفقة إيطو لعلهما تقدمان المساعدة..وجدتا الصغيرة خديجة بجسمها الهزيل تقاوم من أجل وليدتها البِكر كما أكدت ذلك أمها، فخِبرتها تمكنها من تعرف جنس الجنين قبل الولادة. عرضتا المساعدة، لكن الأم بدموع الحسرة تقول لا مجال لنجاتها ما لم تُنقل الى المستشفى. أي مستشفى؟! من يعلم حتى بوجودهم الان على القطب الشمالي للبلاد!؟ لا كهرباء و لا شبكة تغطية… إنهم بدون شك في بدايات الألفية الثانية. اقترحتْ إيطو أن تُنقل الفتاة سريعا الى دوار مجاور حتى تعاينها سيدة دريعة في أمور التوليد، لكن الزوج رفض، فحالة زوجته لا تسمح حتى بالانتظار ساعة أخرى، فقرروا أن يغامروا و يقوموا بتوليدها بأنفسهم حتى لو فقد أحدهما حياته، فهذا قدرهما على حد تعبيرهم.. انتظرت بمعية بعض الفتيات خارج الغرفة و هي تسمع صرخات الأم التي تنحني الجدران احتراما لها، و تدمع العين حزنا عليها ..كانت أفواههن لم تكف عن الدعاء فالله تعالى رب المعجزات..بعدما مر ما يقارب الساعة سمعن اخيرا صرخة الجنين. دخلن جميعهن ..فقالت القابلة: إنها فتاة قوية، فابتسمت خديجة ابتسامة امل ثم قالت فلنسميها إذن إيطو ” بمعنى الصبورة”، ملأت المكان زغاريد الفرحة، و سُمع صداها في الجبل كأنّ الكون بأكمله يحتفي بالوليدة.
توقفت التساقطات أخيرا، فقررت الخروج لعلها تستمتع بالبياض يغطي حقول الفول على المنحدرات، كان المنظر مغريا بالمشاهدة لكنه في الآن ذاته محزنا، فالثلوج تعني عزلة تامة عن الحضارة، والأسوأ إنِ احتاج أحد الساكنة الى التطبيب فإما ان يقاوم و إما أن يصارع الموت، فالمساعدات في نظرهم تكمن فقط في بعض السكر و الشاي و كيلوكرامات دقيق، أو في بعض الأغطية التي لن تقيهم برد الثلوج حتى.
استمرت هذه العزلة أياما، انقطع خلالها التيار الكهربائي و شبكة التغطية، لتنقطع معه صلتهم بالعالم، فتجرعتْ وإياهم مرارة سمِّ عالم منكوب، فلولا ترياق الرضا بقدر الله و التفاؤل لواجهوا موتا أبطأ..
بدأ البياض يتلاشى مع خيوط الأشعة الذهبية لتعود الحياة إلى الجبل مرة أخرى والى ساكنته، و يعود الامل يسكن قلوبهم كما اعتادوا على ذلك.

سمية حراز – مدينة بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “سمية حراز تكتب: تحت درجة الصفر

  1. تعبير رائع وفقك الله تعالى

: / :