محمود محمد فهمى يكتب: قبل النهاية

27 فبراير 2020

أعلم أنك قد جِئت منتظراً أن تُروى لك إحدى تلك القصص الاسطورية التي يمتلك بطلها بعض القوي الخارقة، او أن أُحدّثك عن ذاك الحب الافلاطوني الذي تمتلئ به قصص القدماء، ولكن دعني تلك المرة أكون صاحب الاختيار، سأكون صاحب الكلمة، من يرتب سير الحديث، من ينتقي الالفاظ، المتحكم فى تسلسل المشاهد، وكن علي تمام الثقة أنك ستنال ما جئت من اجله، بل واكثر مما كنت تنتظر.

ما رأيك أن نبدأ بالموت كمشهد سينمائي عتيق طالما امتلئت به القصص والروايات،  ولكن هناك ما هو افجع من تلك الروايات،  ماذا لو جعلنا الموت انتحاراً، أن تلقي بجسدك أمام قطار طائر، أو أن تطير حرفياً من قمة احد الابراج، أو أن تتدلي من احد المشانق وتترك ساقيك طليقة بعيدة عن قانون الجاذبية اللعين، ما رأيك فى مشهد كهذا،  لا اظن ان احدهم اهتمَ ولو لدقيقة واحدة بتلك الافكار التي كانت تتوارد في بال هذا المنتحر لحظة قدومه علي الموت بصدر رحب،  حتي انه يكون حريص كل الحرص ألا يترك لنفسه اي فرصة للنجاة والعودة لتلك الحياة البائسة، ولكن من يهتم، أعتقد ان المهم بالنسبة لنا جميعاً ممن يتابعون ذلك المشهد من تلك الزاوية النائية هو(لقطة الانتحار) في حد ذاتها، فهي من تستدعي الانتباه وحدها دون النظر للمقدمات، لقد اكتفينا من التفكير في ماهية البشر منذ قديم الزمان، فالانسانية مثلها كمثل باقي الاشياء التي اندثرت مع الزمان وغطاها التراب، لم تعد أولوية للتفكير،  يحضرني فقط هنا في ختام هذا المشهد مقولة سمعتها من قبل، أظن أنه لا بأس ان اذكرها

(ستكتشف بعد فترة من حياتك ليست بالطويلة، ان استمرارك بالحياة في حد ذاته اكثر صعوبة بكثير من إقدامك علي الموت،  عليك ان تفتخر بنفسك كثيراً يا ولدي)

خلف كل باب من تلك الابواب بطل من ذهب يستحق ان يُذكر اسمه في القصص والروايات بدلاً من تلك الاساطير الوهمية، التي لم تلامس ما لاقيناه من غدر الزمان قط، انت لا تتخيل كم يتطلب ذلك من عمل بطولي رهيب، الاستيقاظ كل يوم والنزول لمواجهة تلك الحياة السقيمة،  بكل ما تحمله من اشكال الظلم والفوضي والعدوانية والتقاتل علي اللاشئ، يالها من قصة ملحمية لن اضجر ابداً من قرائتها مراراً وتكراراً.

والآن ما رأيك ان ننتقل الي مشهد اخر،  فقط اغمض عينيك وتخيل معي ذلك المشهد،  يتضح لنا من بعيد الكثير من الاحداث،  سأحاول جاهداً ان اذكرها لك بالتفصيل دون ان يغادرني شئ، ها انا ذا أرى أرض معركة تنضب بالدماء، وآلاف الجنود الذين يقاتلون بكل بسالة وشجاعة، يبدوا من زئيرهم أنهم اصحاب تلك الارض وأنهم علي اتم استعداد للتضحية بكل جندي منهم حتي اخر قطرة دماء علي ان تظل تلك الارض ملكاً لهم، لم استطع التعرف علي تلك الارض بعد، يتضح في المشهد ايضا من بعيد قبة ذهبية عملاقة تستطيع ان تراها من اي مكان كان من شدة لمعانها و عظمتها،  اعتقد حقا ان اصحاب تلك الارض لديهم ما يدافعون عنه ضد الاعداء، اعتقد ان تلك المعركة اوشكت علي النهاية، هؤلاء الجنود البواسل قد نجحوا في طرد الاعداء الطامعين في خيرات تلك الارض، رُفعت مئات الرايات تحمل عبارة(لا إله إلا الله) ترتسم الابتسامة علي الوجوه،  رغم فقد الغالي والنفيس في سبيل تلك الارض، يسجد الجميع علي الارض، لن تعرف الفرق بين الجندي والقائد والعوام،  يتعالي الحمد والشكر مع تلك الاكف المتجهة للسماء، اعتقد حقاً أنها نهاية رائعة لتلك القصة الملحمية التي………

ولكن ما هذا… اعتقد اننا انتقلنا مع الزمان، نعم انتقلنا الي المستقبل، يبدوا هذا جلياً، ولكن الي اي تاريخ لا اعلم تحديداً،  ولكن ليس ببعيد عن وقتنا الحاضر هذا، هو نفس المشهد لنفس الارض،   ولكن هناك اختلاف كبير في سير الاحداث، تلك الرايات التابعة للعدو البائس المنهزم،  والتي كانت بالامس تحت الاقدام إذ هي ترتفع في شتي أنحاء المكان،  وكأن الطغاة اصبحوا اصحاب تلك الارض، تتعالي الضحكات الماكرة فوق تلك الوجوه اللعينة، يمتلئ الحديث بالزيف والغش والخداع،استطيع التعرف علي ذلك جيدا، تملئ الاسلحة الحديثة ساحات المكان من كل جانب وكأنه ثكنة عسكرية، بعد ان كان يغلب عليه الطابع الديني الخلاب بالامس القريب، لا ادرى ما الذي حدث عبر تلك الفترة الزمنية والذي ادي بدوره لذلك الانقلاب العجيب في سير الاحداث،  لا اعتقد ابدا ان هؤلاء الجنود البواسل الذين لم تفارقني صورتهم قط يمكن ان ينهزموا في معركة الارض ابدا اياً كان العدو ومهما طال الزمان.

من بعيد اري احد الرجال الطاعنين في السن، من ملامحه يبدوا انه من تلك الفئة المنتصرة بالامس المغلوبة علي امرها اليوم،  اجتمع حوله بعد الفتية الصغار علي نفس السجية، تقدمت نحوهم وجلست مع هؤلاء الفتية مستمعاً لحديث الشيخ، لعلي افهم سبب كل هذا التغيير الذي طرأ علي تلك الارض، قطع كل هذه التساؤلات صوت الشيخ الواهن، الذي ما إن بادر بالحديث عم الصمت المكان، فالكل جاء ليستمع علّ الحديث يغير من واقع الامر شيئاً

(أتعلمون يا ابنائي ثمن تلك الارض التي نقف عليها؟!  سأخبركم بعض الحقائق عنها واترككم انتم لتخبروني كم يبلغ ثمنها،

عبر آلاف السنوات كانت هذه الارض مطمع الغزاة والاعداء، سقط علي تلك الارض ملايين الشهداء الذين لم يبخلوا بنقطة دم واحدة في سبيل الدفاع عنها، امتزجت دماء العرب اجمع ها هنا من اجل تلك الارض، من هنا انبعثت( العروبة) من هنا ولدت الاساطير، هنا مهد الاديان،  هنا (المسجد الاقصي) اول القبلتين وثاني الحرمين الشريفين، هنا (القدس) عاصمة العرب والمسلمين قبل ان تكون عاصمة لفلسطين، رغم انف الخونة ممن باعوا الارض والعرض والوطن،  لا تعتقدوا لثانية واحدة اننا قد خسرنا تلك المعركة، لا والله، فتلك المعركة ابدية وهوية المنتصر معلومة مسبقا،  ستظل تلك الارض عربية الي ان تقوم الساعة،  حتي وإن كنتم لا ترون ذلك.

لايوجد بيت من تلك البيوت لم يقدم احد افراده من اجل تلك الارض، لا يوجد بيت من بيوت العرب لم يقدم شهيد من اجلها، فلا يخبرني احدكم الآن اننا قد خسرنا تلك الارض، والله الذي لا إله إلا هو، ستعود تلك الارض لاصحابها، وإن غدا لناظره قريب.)

لم يسبق لي ان شعرت بمثل هذا الشعور من قبل، ولكنني كنت آمل ان احمل احد الاسلحة في يدي في تلك اللحظة لأحارب هؤلاء الاعداء مغتصبي الأرض، حتي وإن كنت لا اعلمهم،  ولكن ما اتيقن منه هو تدنيسهم لتلك الارض الشريفة.

ربما لست الاجدر بذلك الحديث، ولكن سأخبرك القليل عن التاريخ، سيذكر التاريخ كل خائن متواطئ لعين اعتقد ولو للحظة واحدة ان تلك الارض ملكاً له وانه قادرا علي التصرف بها بالبيع والشراء، هل ستدفع ثمن آلاف الارواح التي سقطت من اجل ان تبقي تلك الارض حرة مستقلة، اظن ان الاجابة علي سؤال كهذا معلومة مسبقا.

اظن انه قد آن الاوان ان تفتح عينيك،  ولكن اريدك ان تفتحها علي تلك الحقيقة الراسخة

“فالحق حق وإن لم يحقق

والصدق صدق وإن لم يصدق”

محمود محمد فهمى – مصر

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :