محمد الودير يكتب: الحب يكمن في التفاصيل

31 ديسمبر 2020

افتعل صراعا في يومه الأول من محكوميته، لم يكن يعلم أن هذا الفعل سيجر عليه غضب حراس السجن و أن هذا السجن يختلف في طريقة تسييره عن باقي سجون البلد، لم يعيي فداحة خطأه إلى بعد أن فض الحراس و بقية السجناء صراعه ذاك مع سجين أخر و بالضبط حين أخبره زميله في الغرفة بعواقب فعلته، لم يصدق أن فعلا كهذا سيكلفه عقابا قاسيا يبتدئ بالوقوف لساعات في وضع مقابل للجدار دون أدنى حركة و من ثم يكون ملزما بالقيام بعمل شاق يتمثل في مساعدة البنائين تحت أشعة الشمس الحارقة لأربعة أيام متتابعة، ذهل عند سماعه بما ينتظره و تمنى لو ضبط نفسه و تجنب الدخول في صراع لم ينل منه سوى كدمات مؤلمة و عقاب متوقعا ينتظره، بعد حوالي ساعتين سمع صوت الحارس ينادي باسمه، تقدم نحو باب الزنزانة دون أن يتفوه بكلمة، وضع له الحارس الأصفاد و اقتاده نحو غرفة خالية من أي أثاث، دفعه بقوة باتجاه جدار مقابل لباب الغرفة و أمره بأن يبقى على هذا الوضع إلى أن يطلب منه التحرك، استدار السجين إلى الخلف وقال:

  • ولكن، كيف يمكنني أن أظل على هذا الوضع؟

رمقه الحارس بنظرة حادة، تقدم نحوه مسرعا ثم هوى عليه بهراوته و قال:

  • كان من المفترض أن تفكر في هذا قبل افتعال الشجار، كما أنه لا يحق لك الاعتراض فأنت بسجن و ليس بفندق لتسير الأمور وفق هواك.

امتثل السجين للأمر و عاد ليقف في وضع مقابل للجدار، خرج الحارس من الغرفة بعد أن تأكد من أنه قد نفد تعليمات المأمور، وجد السجين نفسه وجها لوجه مع لوحة زيتية، استقر على أن يغمض عينيه و يسرح بخياله لعله يسعفه في طي ساعات العقوبة المملة، تذكر كل تلك الأيام التي كان يصحب فيها صديقه إلى معارض الفن التشكيلي، لم يك ليزورهم يوما كما لم يك له اهتمام باللوحات لولا الحاح صديقه عليه لمرافقته، استغرب ولع صديقه الشديد بالفن التشكيلي، تذكر أنه كان يقف على بعد 30 سنتمتر من اللوحة في حين يبقى هو على بعد أمتار، فتح عينيه مجددا على اللوحة، أمعن فيها النظر جيدا، انتبه إلى الدقة المتناهية في رسمها، و سار يضع فرضيات لمعناها، استغرق في النظر إليها قرابة الساعتين وهو يحاول جاهدا فك رموزها، حينها أيقن أن اقتراب صديقه من اللوحات هو ما يجعله يقف أمامها لمدة طويلة و أن ما يراه المقترب منها غير الذي يراه من يقف مبتعدا عنها بأمتار، “يرى التفاصيل الدقيقة” عاد ليغمض عينيه، تخيل و أنه يجلس بمرسم أمام لوحة بيضاء، و عدة الرسم إلى جانبه، تساءل في قرارة نفسه عن ما يمكنه رسمه؟ فكر في أن يرسم التعاسة و الشقاء، لكن كيف يمكن له تجسيدهم؟ وبينما هو مستغرق في خياله سمع صوت الحارس يناديه:

  • تقدم إلى هنا.

تقدم نحوه السجين بارتياح بالغ، استغرب الحارس ارتياحه ذاك، لا يبدو عليه الضجر بتاتا، و راح يفكر في سر كل ثباته ذاك، سحبه من دراعه تم توغلوا بين عدة أروقة ليجد نفسه في ساحة فسيحة يحيط بها سور قيد الانشاء وبضع سجناء يقضون عقوبتهم و التي تتمثل في القيام بأعمال البناء الشاقة، أمره بأن يساعدهم في التشييد والبناء، اقترب منه سجين أخر ألقى عليه تحية، بادله أحمد بأخرى أرفع منها ثم سأله السجين قائلا:

  • كيف قضيت عقوبة الوقوف في الوضع المقابل للجدار؟

ضحك أحمد وقال:

– كانت  عقوبة ممتعة.

– نظر إليه السجين نظرة استغراب وقال:

– غريب أمرك، من غير المنطقي أن تجتمع العقوبة و المتعة في موقف واحد، و ماذا استنتجت؟

– استنتجت أن حب الأشياء رهين بالاقتراب و الانتباه إلى أشد التفاصيل.

محمد الودير -مدينة أسفي

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :