لمياء عبد السلام تكتب: الكتبي

16 يونيو 2019

أنا أحاولُ أن أرتب الحروفَ المهملة، المتساقطة في جُبِّ النسيان  في غفلةٍ من المارةِ في الحارة ، و أنظفَ الغبارالعالق على وجوههم الكالحة، أقوم بذلك بأريحيةٍ لا يفهمها معظمُ من يرمقني ، وأنا أتنقلُ بين جغرافيا الكتب التي تضمُّ عالمي الرصين  وتحده بتضاريس مديدة، تفصلني  عن عالمهم الآسن ، جبالٌ شاهقة مَتينةٌ من العلم والمعرفةِ  تمنعُ العمَّ شاكر صاحب المقهى المجاورِ لمحلي، ومعظم  من فيه من الرُّوادِ، من فهمِ نوع تجارتي الراكدة ، ينصحني حينًا بالتخلي عن كومة  الأوراق الميتة التي بحوزتي والتي لا تحقق لي  أي ربحٍ ، لِتظلَّ محفظتي المهترئة خالية الجيوبِ، صفراء المُحَيَّا،يخاطبني تارةً بسماجةٍ كريهةٍ؛ يا محفوظُ عليك ببيعِ المكسراتِ والفواكهِ الجافة ..هي بلا شك ستذر عليك دخلا أفضل من هذه الأساطير البائدة التي لا يصلح  ورقها سوى للف بذر دوار الشمسِ  ! وأنا منشغلٌ لا أكترثُ لبلاهةِ ظرفهِ، بتفقد كتبي التي ينعتها بالأساطير البائدة ، أضع بعضها على الرفوف، وأعتذرُ لأخرى فأَضَعُها على الأرض، لضيقِ المحل الذي أَسْكَنْتُهَا فيه؛ أعلم يا غالية.. أنكِ تستحقين قصرا ذا مكتبةٍ عظيمة، ورفوفٍ مزركشةٍ مصنوعةٍ من أجود أنواع الخشبِ، لكي تعتليه بشموخٍ، غير أنه وبدون إرادتي  هذا هو الموجود الآن في هذا الوجود! انتشلني أحدُ المارةِ من حسرتي ، وهو يسأل عن ثمن  كُتيبٍ صغيرٍ، يُغري عنوانه العريض بعض المخبولين: كيف تصبح مليونيرا في أسبوع! كنت على وشك أن أخبره أنه لا جدوى من تعلق أحلامه الذهبية  برنين الوهم والسرابِ، فهو  كتاب طريف، ظريف، لكنه لا يجلب قرشا أو درهما، غير أنني إلتزمتُ الصمتَ وأخبرته بثمنه، فأنا في حاجة لكل درهم ، وأنا الذي قل ما أبيع أو أقبضُ، فعم شاكر حينما  يضجرُ من كثرةِ نصحي حول تغيير تجارتي ، يَعرضُ عليَّ شراء محلي الصغير ، ليحوله إلى مشروع لبيع الشوارما ، والأكلات الخفيفةِ التي تفوح رائحتها في ذهني وأنا أتطلع إلى كتب الطبخ التي أرصها على الجانب الأيمن من المحل، محاولا بذلك تغطية رائحة السجائر والشيشة المنبعثة من المقهى. ربما يراني غبيا أو معتوها وأنا أفتحُ باب المحل عند كل صباح، بعد نومةٍ هنيئة  بداخله بين أهلي  وأحبتي الذين يؤنسون وحدتي، ويسلون وحشتي، وأنا الكُتُبِيُّ الوحيد المتبقي في هذه البقعة من المدينة الضائعة بين ذبذبات التكنولوجيا الحديثة.
أخبرني يا محفوظ! من ياتُراهُ لا يزالُ يقرأ ؟ ..لقد انقرض عهدُ الأوراق منذ زمن غابرٍ و ولى.. إذ  ليس عليك الآن  إلا أن تمسح على شاشة هاتفك ..حتى تدخل إلى أكبر المكتبات الرقمية!
أَصمتُ مجددا ، فتهتف نفسي، مالهم لا يفهمون ! حتى و إن أضحيتُ آخر كُتُبِيٍّ على وجه هذه البسيطةِ فلن أتخلى عن كُتبي ..فهم  أهلي .. وإني أكاد أجزم أنني أرى دموعَ عيونهم تسيلُ بغزارةٍ مما يلاقونه من إهانة يومية، وأسمع حسيس نحيبهم وشكواهم.. لكنني أطيب خاطرهم في كل مرة أفتح فيها كتابا، و أقرأه بشغف إلى نهايته؛ هيه أنت ..!
هذا الكتابُ لا يصلحُ لشئ عليك برد الدراهم التي أعطيتك إياها..فقد جربتُ كل ما فيه ولم أُصبح  مليونيراً!
نظرتُ إليه بهدوء فقد علمتُ منذ البدايةِ، بأن هذا الشخص لا يصلح للقراءة، ولن تُصلحهُ القراءة، فرددتُ عليهِ دراهمه واحتضنتُ الكتيب الصغير الذي بدا لي وكأنه عاد من معركة طاحنةٍ خلفت له عاهة مستديمةً، قُطعت فيها بعض أطراف أوراقه الضعيفة، فوضعته بحنان الأب على الرف في مكانه الأول، وبدا لي سعيدا شاكرا، فسعدتُ بدوري لسعادته وجلستُ على الدرج أكملُ سياحتي بين  جغرافية عالمي، وبين أحاديث الأوراق التي تهمس لي عادة بعد كل كسرةٍ و حسرة؛ يا محفوظُ !الحياة سهلة لطيفة لما تحاط بأناسٍ، سهلة الطباعِ محبة للعلمِ، غزيرة المعرفة، وصعبةٌ شاقةٌ حينما يحاوطكَ الجهالُ!

لمياء عبد السلام : طنجة
خريجة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان
ليسانس في الدراسات الإسلامية
قاصة في مبادرة نساء مبدعات بجميع إصداراتها عن دار الشهد للنشر والتوزيع بمصر

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :