رشيد سكري يكتب: عندما يؤوبُ المساءُ …

28 يوليو 2019

دفنا النَّخلة في المقبرة

وظلت تبتلعُ مصائرَ البلاد و العباد .

في سَنم النَّجف امتدت ظلال وارفة ، تطل على شعاب ضيقة ، وتقطـِّع أوصال قريتنا الصَّغيرة ؛ آيت عبو الحبيبة . لم يكن الطاهر دوحة فحسب ، بل نخلة بثمار صفراءَ يانعة . تسافر عبر حكايات زمن … تحاكي سيرورة وجوه غابرة و معفـَّرة بتراب نديٍّ ، وفي الناس العاثرين حظهم في بلادي . لهم ألف كبوة و كبوة ، كما يفعل الأدهمُ ذو القوائم المحجَّلة ، عندما يقطع أحراش قريتي المالحة .

كان صبيُّ أعرجُ ، ذو أسمال بالية ، يسكن بيت الأحزان . بناه بطين أحمرَ أرجوانيٍّ ؛ فعدَّل قوامه بالملح الكلسي الصَّلب ذي العروق المعدنيَّة ، حتى أصبح سقف بيته حديد وركنه حجر … فاعصفي أيتها الرَّوامسُ بالموت ، وبكل الخلائق … وبكل ما تبقى من حجر و بشر

ـ فأنا حفـَّارُ قبور و رموس ، أسمع أنين الموتى تحت أقدامي العرجاء . وبأناملي العَجـْراء أقتات من موتاكم … بماء نمير أروي ظمأهم ؛ فأرش ، تحت أقدامهم ، ترابا مسحوقا كالطحين . حتى لا يعودوا من أجداثهم المدلهمَّة

ها هنا… دفنا ماض كان يتقلب فينا وجعا مثل القـُداد . رسم تجاعيده على أطراف أكف تتضرع إلى الله في خنوع و ابتهال … تطلب :

غيثك … غيتك … يا الله .

غيثك … غيتك … يا الله .

فالطَّاهر كان نخلة تمْشي في سُكون الأنبياء ، له من هذه الدنيا الفانية ؛ فرسٌ بيضاءُ ، عيناها كحبات الفستق ، تـُستأجر في الحفلات و المواسم . يركبها الصبيان ، و يلهون

بأعجازها السَّابغة كحورية البحر . و له ، أيضا ، سبْعُ بقرات سمان ، وسبعُ سنبلات خضر ، وأخرُ يابسات .

هكذا الوجع يُطرد من انتظار … لا يعود الطـَّاهر إلى قريتنا … إلا بعدما يؤوب المساءُ إلى بطاحه ؛ فيغطي منازل و دورا واطئة برداءٍ أحمرَ طيلساني . يمر بتؤدة على السواقي ، التي تحفر في التراب أخاديدَ غويرة ، يتشقق لها المقام ؛ فيعلو و يعلو … تروي البقرات السِّمان الظمأى عطشها الوقـَّاد من صهْدٍ و قرٍّ مقيمين في الجوى ، و لا يُسمع إلا طقطقات شفاهها المبللة بماء صافٍ زلال ؛ يلمع كحبات الكرز الأحمر أو القمر الأحمر .

يقف الطاهر على رؤوسها كصنم حجري ، وهي تنتشي لذة مياه باردة حلوة و نميرة ؛ فيحس معها بنشوة تسري في عروقه المَالحة . من فم أثـْرَمَ متهدل ينشد لها نشيد العودة إلى ديار بئيسة وحزينة ، ويفسح لها شهية شرب الماء ؛ فبين الماء و بين النار ، مياه آيت عبو الحبيبة دواءٌ لكل سقم ونقم ، تصفـِّي المداخل و المخارج و الصَّواعد و الهوابط و العروق المعدنيَّة .

طبَه … طبَه

طبَه … طبَه

تنفجر الشفتان معلنة على انتهاء حصة الشرب الهادئ ، وهي تتلمظ و تتمطـَّق ما انبجس وسال منها ، فتنزل السَّكينة من مُزنة بعيدة بالرحمة و الغفران ؛ لتصعد بعد ذلك ، البقرات السِّمان في غـُنـْج ودلال بين الممرات و الشعاب الظليلة . يتناثر من حولها نقعٌ كالعِهن المنفوش ، فتبدو كأنها تحمل ، على أكتافها ، هـَوْدَجا لعروس قادم من زمن إلى زمن .

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :