رشيد سكري يكتب: الرواية بين المصالحة و تدمير الذات

7 ديسمبر 2019

  ظل الخطاب الروائي العربي ، طيلة القرن الماضي ، مشدودا إلى حبل المقاومة بالكتابة ، كتعبير عن الرفض ، لواقع قاس و صعب ؛ يتراوح ما بين الألم و الأمل . ففي ذلك ، كانت السِّمة المهيمنة ، على الإبداع السردي العربي ، هي فضح ما يقع خلف الستار القاتم  والمعـْـتم  ؛  من انتهاكات جسيمة تتغيَّأ ، من خلالها ، تدمير الجسد و الكرامة الإنسانية . وفي هذا المقام ، باتت الرواية العربية تبحث عن جذور ، تؤمِّن بها تصالحَها مع الذات والواقع العربيين ، لاستئصال ماض موبوء ؛ باق  ومقيم في وعي الإنسان العربي تتوارثه أجيال و أجيال . فما كان للحكي ، بمختلف تلويناته ، إلا أن يسافر عبر نصوص تشاكل بين الحداثة  والتحديث ؛ فكشفت عن جسد عار ينزُّ دما و يتحلـَّب ألما . فبفعل القوة  والاستبداد  والخنوع والطاعة العمياء ، استطاع الجلادُ أن يدمر كل ما هو جميل و فاتن ، بل كانت له القدرة و المهارة على أن يغرس غريزة الموت )الثاناتوس( ، بدل أن يسقي شجرة الحياة )الإيروس( حسب تعبير الدكتور جابر عصفور ؛ ليظل الإبداع مرتبطا عضويا بهذه الانعطافة الخطيرة من تاريخ الأدب العربي . فبالرغم من بعض النصوص ، التي كانت تحلم بفجر جديد ، استطاعت أن تحرك ، إلى حد ما ، مياها آسنة و راكدة ، ولامست عصبا عاريا من الجسد العربي ، كشفت من موقعها ، عن واقع قموع  و مستبد الذي عاشه  ويعيشه المواطن البسيط  والأعزل .  متمكنة ، بذلك ، من تغييبه في غياهب سجون  واعتقال ؛ ليبقى هذا الجرحُ غائرا على امتداد الوجود.

إن فعل الكتابة ، هو مقاومة بفعل المعرفة ، حيث إنها ـ أي الكتابة ـ تتهدد إسقاط التعصب  وهدم الانتصار الأعمى لأخلاقيات بائدة ، تؤمن بقوة زائفة ، تنقشع مع مرور الزمن . فضلا عن ذلك ، تظل الكتابة و المعرفة فعلين تدميريين للهيمنة المطلقة ، يجنحان دائما إلى تعرية واقع وبائي و ضحل ، بل يعملان على رفع الستار عن المسكوت عنه داخل المجتمع. غير أن الكتابة شعور و إحساس و دغدغة مشاعر وأحاسيس و جذوة خيال ، تلاعب الزمن  والمكان وتنتصر عليهما . في حين تظل المعرفة حبيسة الوعي ، قابعة وراء الفهم  والإدراك و المناقشة ، مجردة من كل ما هو محسوس و ملموس .

فمن أجل استبانة العلاقة الموجودة بين الكتابة  و المعرفة ، يظل الإبداع الحلبة ، التي تنكشف عندها هذه الرؤية الفنية المصطبغة بالواقع . ولئن كانت الرواية العربية ، حسب جابر عصفور، ورشا أدبيا للمقاومة عن طريق الكتابة ، فإن الخطاب الروائي يزاوج ، في هذا المستوى ، بين المعرفة الأيديولوجية للوقائع الروائية ؛ و يصلها وصلا بالكتابة . حيث إن هذه الأخيرة تصبح ، بلاغة توصل الصور الفنية ، بل تتماهى و الوظيفة ، التي تقوم بها الآلة الفوتوغرافية . وغير بعيد عن هذا التماهي الموجود بين المعرفة و الكتابة ، يظل الكاتبُ المبدعُ ؛ السَّمْت الوحيد الذي يؤلف بينهما ، ويكشف للعالم عن حقيقة غائمة ، أمست ملتبسة في الأذهان لفترات من الزمن .

بتعبير آخر ، فعندما تتزاحم في الذهن المعرفة و الكتابة ، يخرج الكاتبُ المبدعُ برؤية فنية ، كمَجْلى من مجالي بلاغة الإمتاع الأدبي ، التي تتراوح بين ما هو كنائي و استعاري مجازي  ؛ يجرِّح الواقع ، ويُعري عن عصبه العاري ، بل يستطيع أن يُشرِّحَه ـ أي الواقع ـ بأدواته الفنية ، بهدف إعطاء للوجود معنى يبتغيه . لذا يبقى  الإبداعُ ، دائما ، وسيلة تؤمن العبور إلى ما يموج به الواقع من صراعات  وأيديولوجيات متطاحنة . إن الانتصار ، الذي حققه الحكي على كل أشكال العنف الرمزي في المجتمع ، واستمراره ـ أي الحكي ـ في الزمان و المكان ، دليل على المكانة المتميزة التي يحتلها الخطاب الأدبي في الوجدان الإنساني عبر التاريخ . فما كان انتصار فدريكو غارسيا لوركا ؛ الشاعر الإسباني ، على الموت ، وهو يواجه رصاص فرانكو ، الذي دك برشلونة دكا ، إلا تعبيرا واضحا على المدى غير المتناهي الذي يبلغه الخطاب الأدبي الشعري ، فضلا عن رجع الصدى  والرجة المعرفية ، التي تبقى راسخة في الأذهان عبر التاريخ .

فمن بين الروايات ، التي استطاعت أن تقلِـّبَ القارئ وجعا ، ويحس معها أن شيئا ما  بداخله ، يفعل فعله ، مثل القـُداد ؛ يعتصره حسْرة و ألما ، و كانت لها ـ أي الرواية ـ الجسارة والجرْأة على أن تلامس العصبَ العاري في جسد الكتابة ، ومعها  أصبح القارئ سجينا و أسير عذابات و إهانات تتعرض لها الكرامة الإنسانية ، نجد رواية ” الآن … هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ” لعبد الرحمان منيف . بَيـْد أن الكتابة الواصفة للتجربة الإنسانية خلف القضبان ، تقتضي المعرفة بالظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلاد العربية ، من أجل اكتمال صرح الكتابة واندماجها المطلق بالمعرفة التاريخية . تحكي رواية ” الآن … هنا ” عن رحلة علاجية إلى براغ لسجين سياسي في دولة العموريَّة ، بعدما أكدت الخبرة الطبية على أنه ـ أي السجين ـ سيلاقي حتفه ، بسبب التعذيب الذي تعرض له في غياهب سجونها و معتقلاتها . وفي هذه الرحلة سيلاقي سجينا آخر  هو طالع العريفي ، فنسجا علاقة وطيدة ، بفعل ماضيهما المشترك ، حيث تقاسما تقريبا الذكريات نفسها عن المطبَّات  ومعاناة الاعتقال في سجون موران و العمورية . وعن الرواية يقول سعد الله ونّوس ” حين فرغت من رواية عبد الرحمان منيف الجديدة ، أحسست حلقي جافا ، وغمرني شعور ذاهل بالعار … كيف نعيش حياتنا اليومية ،  ونساكن هذا الرعب الذي يتربص بنا هنا … والآن ؟ “

لا نستطيع الحديث ، إذن ، عن أدب السجون من دون ذكر التجربة الروائية لعبد الرحمان منيف ، فضلا عن ارتباطها الشديد بالمعرفة الحقيقية للأفضية و الأمكنة الذي تتحرك فيه شخصياته .  فالسجن مكان للتعذيب ، والمستشفى مكان للموت يقول عبد الرحمان منيف ” اضطجعت استعدادا للموت . أثناء الاستعداد تذكرت أشياء كثيرة ، ولا أبالغ إذا قلت إنني تذكرت كل شيء ، منذ أن كنت صغيرا ، وحتى اللحظة التي غادرت فيها المستشفى …” ، فمهما اتسعت أحياز التجربة الرواية ، عند منيف ، إلا ونحس أنه على معرفة بخصوصية المكان الذي تتشكل منه الرؤية الفنية ؛ لتأتي الكتابة كمنجز و كتحد للأسلوب الكلاسيكي المهيمن على السرد العربي . إن الخصوصية التي تتمتع بها المعرفة عند عبد الرحمن منيف ، هي تحريضية بالأساس ، تتلمس طريقها نحو الكشف والمكاشفة بين الجلاد  والضحية . فما  الكتابة ، في هذا كله ، إلا وجهٌ من وجوه النضال ، والتساؤل و تحريك للجامد  والغوص في مستنقع .

فمن بين الروايات الأخرى ، التي ساهمت في هذا المنجز الحكائي ، رواية الكاتب المغربي جواد مديدش ، المعنونة ب ” درب مولاي الشريف ـ الغرفة السوداء “، والتي ترجمها عبد الرحيم حُزَل إلى اللغة العربية . ولما كانت المعرفة تهم الوجود في أسمى معانيه ، خصوصا للذين لم يعايشوا سنوات الرعب ، حسب أبرهام السرفاتي ، فإن جواد مديدش قربنا من معاناته التي دامت أربع عشـْرة سنة ، والتي سَلـَخها من أصل اثنتي وعشرين سنة كسجن نافذ في غرفة سوداء معتمة . يقول عنها مديدش ” إنها غرفة تحكي بحيطانها  وسقفها المصبوغة بالأسود ، مدخنة هائلة ، تقوم لصق السقف منها ، كوة  هي الوحيدة المطلة على الخارج . ينفذ منها الأكسجين و ضوء النهار بتقتير شديد … كنا في هذه الغرفة اثني عشر نفرا ” .

إن الكتابة ، عند جواد مديدش ، لا تنساق وراء الجاهزية في الكلام و القول ، بل تجعل القارئ متورطا و صانعا للحدث في الآن نفسه ، فضلا عن  تحميله المسؤولية المصيرية في الوجود  والكينونة . من هذا المنطلق ، تحكي رواية ” درب مولاي الشريف ” عن انكسار أحلام شبيبة حزب الطليعة بالمغرب ، وهي تواجه ، نهاية سبعينيات القرن الماضي، ظلم و استبداد الجلادين . لكن السؤال الذي علق بذهني ، وأنا أقرأ الرواية ، من أين أتى جواد مديدش بتلك اللمسة الإنسانية لمحكياته ، وهو يعيش الرعب و الغضب الوحشي لجلاديه في الزنازن و أقبية الموت ؟

 وأمام الانفراج السياسي نهاية الثمانينيات ، وصعود قوى اشتراكية جديدة تؤمن بالحرية  والديمقراطية ، استطاع المغرب ، منتصف العشرية الأولى من الألفية الجديدة ،  وبناء على قرار المجلس الاستشاري للحقوق الإنسان بالمغرب ، أن يخلق هيئة الإنصاف والمصالحة. سيكون الأمر طبيعيا ، في ظل هذا الانفراج ، أن تخرج ” الغرفة السوداء ” من وسطها الروائي إلى الوسط السينمائي ، حيث اعتمد المخرج السينمائي المغربي ” حسن بنجلون” على تقنيات حديثة في التصوير و الإخراج ؛ بغية المرور السهل من الرواية إلى الفلم التصويري .

    نرى ، في ضوء ما قدمناه ، أن الرواية استحوذت على نصيب كبير من الإبداع في الساحة الثقافية .  واحتلت ، بذلك ، مساحة مهمة ضمن الوسائل و التقنيات التي يتفاعل بها الإنسان مع واقعه و محيطه . ونتيجة لذلك ، حسب الدكتور جابر عصفور ، أصبح الإنسان يعيش زمن الرواية . فالمزية لا تكمن في أي الزمنين يستحوذ على مخيلة المبدعين ؛ أ زمن الرواية أم زمن الشعر ؟ وإنما المزية تتجلى في مدى وسع الإبداع من مقاومة كل أشكال الانتهاكات و التعسّفات ، التي يتعرض لها الإنسان في تاريخه النضالي ضد قوى الطغيان.

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :