خديجة الخليفي يكتب: عـطـلـة قصيـــرة

13 فبراير 2020

قررت هذا المساء أن ألبي طلب نفسي، سأستقبلها وأكون كلي لها. مضى وقت طويل لم أستمع فيه إليها، كنت أؤجل دوما موعد لقاءنا. أخذتني دوامة الحياة، أركب دائما نفس القطار في نفس التوقيت، اهتمامي بالزوج والأولاد والعمل.

ماذا يحدث لو غيرت وجهة القطار الذي يوصلني إلى البيت؟ آه يا إلهي!

  • آلو منير
  • نعم أمينة
  • أرجو منك يا منير أن تهتم بنفسك والأولاد هذا المساء، إني متعبة وأخذت موعدا لتلبية حاجيات جسدي
  • تعبير غريب! لم أفهمك. رد منير قائلا.
  • سأذهب لصالون الحلاقة، …
  • فهمت الآن، تأخذين حماما و…
  • نعم
  • سأفعل، اطمئني يا عزيزتي.

منير زوج طيب، يتفهمني دائما ولا يرفض لي طلبا. كانت نساء العائلة تحسدني عليه.

هذا المساء أنا في إجازة، لم أصدق بعد ذلك، حتى أفكاري لم تستوعب بعد حدث العطلة القصيرة.

ذهبت إلى صالون الحلاقة، قامت السيدة لمياء بالاعتناء بي. كان البرنامج مكثفا، من حمام إلى تدليك وتسريح شعر إلا أني استمتعت بذلك. كان بداخل الصالون ركن صغير مخصص لبيع مستلزمات النساء من عطور وغيرها. لم أمنع نفسي من شراء عطر “الحياة جميلة” أو كما يقال لها باللغة الفرنسية .”la vie est belle” قرأت ما قيل عنه في الكتالوج، فشعرت بشغب رغبة تشتعل بداخلي وتأمرني بشراء العطر. هكذا كنت أول من وضعه بين زميلاتي وبين نساء العائلة.

في ركن آخر بصالون الحلاقة، قاعة صغيرة تجلس بها النساء للفضفضة، جلست بدوري أستمع وكأني في حنين إلى مثل هذا التجمع. لم تكن مجرد قاعة عادية، بل كانت غرفة مؤثثة بشكل تقليدي، كان بها سجاد أو زربية قيل لي أنها صنعت بمدينة مراكش، وبها مائدة مزخرفة بأشكال هندسية دقيقة، وفوقها وضعت السيدة لمياء المشرفة على الصالون صينية من المعدن أتت بها من مدينة فاس. كنت أشعر كأني بمأدبة، روائح بخور العود تتجول بأركان صالون ضيوف الحلاقة.

لم تخلو هذه الغرفة من حضور الحلوى وكؤوس الشاي. سبحان الله! لم أكن أعرف ولا امرأة من الحاضرات سوى السيدة لمياء، لكن روائح المكان الجميلة وأثاثه الأنيق زاد في ابتهاجي وجعلني أشعر كما لو كنت أعرفهن كلهن. استمتعت بالحديث إليهن، وهناك بتلك القاعة الصغيرة سمعت أغرب وأجمل قصة، إنها قصة بشرى التي تتحدث لنا عن رجل مختلف على حد تعبيرها. قالت:

أحببت يونس كثيرا، إنه رجل وسيم، قوي البنية وله صوت جميل يشبه صوت الممثلين.

ما إن سمعت بشرى تقول هذا، حتى ضحكت، لم أستطع تملك نفسي، لكنها قالتها بشكل غريب يثير الضحك…

  • أعتذر منك يا بشرى،
  • لا بأس عليك. هل تعلمن شيئا؟ الصوت يلعب دورا مهما، بفضله تسافر جوارحنا إلى عالم الجمال، فلا جلوس ولا استماع لصوت نشمئز له.
  • معك حق.

شاطرتها الرأي السيدة لمياء.

تابعت كلامها بشرى:

كنت أحب سماعه وهو يتكلم، أهاتفه كي أسمعه، أختلق أشياء كي أسمعه. وكلما احترت في أمر وجدت عنده الحل. أشركته في كل صغيرة وكبيرة، جعلته ربان حياتي. وفي ليلة، كلمني على الهاتف: مساء الخير بشرى

  • أهلا بك يونس
  • أنا في عطلة لمدة ثلاث أيام، ما رأيك لو سافرنا؟

سعدت باقتراحه كثيرا، سعدت من كل قلبي، ما إن أقفل الخط، حتى عاود الاتصال:

  • بشرى، لن أستطيع السفر، سأشرح لك لاحقا

انتظرت شرح تفاصيل إلغاءه السفر، لكنه لم يفعل ولم أسأله بدوري.

مر أسبوع تمنيت فيه أن أسمع شرحا، لكن دون جدوى. شاءت الأقدار أن أسافر مع العائلة، اقترحت عليه أن يلحق بنا، فرحب بالفكرة. انتظرته لكنه لم يأت!

رجعت رفقة أهلي، انتظرت اتصاله بي، لكنه لم يفعل بل أرسل لي صورة من مكان جميل من نفس المدينة التي كنت بها مع عائلتي. استغربت! استغربت كثيرا! ما الذي يقع؟ مع من سافر؟ ولماذا سافر؟ ولماذا نفس المدينة؟ ما قصده؟ أسئلة كثيرة حاصرت أفكاري… احترت في الأمر، هل أسأله كما تعودت؟ أقنعت أفكاري بأن تلتزم الهدوء والتروي وقلت في نفسي: ربما كان محتاجا لفترة تأمل. لكن تأمله طال وفاق المعتاد! لم يعد يتصل إلا نادرا. أخذت زمام المبادرة، إلا أن الهاتف يرن ولا من مجيب!

اشتقت إليه وإلى صوته ونصحه، غيابه سبب لي الكثير من الألم. ما عشته وما أعيشه لغز قوي صعب. حبيب وجدته عند الشدة، وهو نفس الحبيب الذي تركني مسببا لي آلاما جمة…

ما الذي وقع؟ هل أذنبت في شيء؟ أم أن يونس ذهب لأني جعلته ربان حياتي؟ أنتن أيتها النساء، يا من سبقنني إلى عش الزوجية، هل تستطعن تفسير مع وقع؟!

حزت بشرى في نفسي كثيرا، نظرت إليها وعلامات العجز عن الإجابة ترتسم على محياي، وكذا النساء الحاضرة.

ارتشفت بشرى الشاي الذي كاد يبرد، ثم أضافت قائلة:

هل تعلمن، تمنيت أن يحتضن حيرتي ويحل رموز اللغز. اشتقت إليه كثيرا، كلما شاهدت صوره كلما طرحت عليها مليون ألف سؤال إلى أن تجف أسئلتي، فأرتشف ماء فترتوي ثم أستأنف طرحها.

 في غيابه، تعرفت على أصدقاء آخرين، انخرطت في جمعيات، وأشغلت كل وقتي حتى لا أجد ثانية للتفكير فيه وفيما حدث. نعم! تعرفت على أصدقاء جدد، أشغلت نفسي بكلام آخر، بسفر جديد، بطبخ جديد، بلباس جديد، بحقيبة يد جديدة، بعطر وأحمر شفاه جديدين. لكن مع كل هذا، مازال يونس يسكنني، ما زال يحيا بداخلي، ليته يعود ليراه قلبي ويضع نقطة النهاية، ليته يعود لتسمعه أذناي وتطرد ما بقي فيهما من أثر صوته الجميل. ليته يرجع لأطرد ذكراه من دواخلي. لكن هل أستطيع ذلك؟ ربما نعم، وربما لا. إنه رجل وجدته دائما عند الشدة.

قصة بشرى ويونس غريبة نوعا ما، فغيابه لم تكن أسبابه واضحة. حب في نزعه الأخير إن لم يكن مات أصلا. ومع ذلك من يدري!؟ قد يحيا حب يونس لبشرى، ويظهر وتعم البشرى وتتعطر حياتهما بعطر الصفاء والإخلاص والجمال، وتتعطر حياتهما بعطر “الحياة جميلة”

خديجة الخليفي – مدينة سلا

 

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “خديجة الخليفي يكتب: عـطـلـة قصيـــرة

  1. مصطفى امين فبراير 14, 2020

    اعتمدت الكاتبه على لغه بسيطه كي تتير الانتباه لطريقه سرد مفصله ومتيره تشد التركيز والمتابعه لتجعل كل قارئ يرتشف من شاي الصالون ويجالس سيداته جعلت القارئ يرى كل الملامح ويتابع بشوق ما ستفضي اليه حكايه صاحب الصوت الشجي كما تدعو الجميع لمجالسه الدات والاستماع لمتطلبلتها البسيطه الهامه.

: / :