خالد النافعي يكتب: القاتل بالأغاني القديمة

3 يناير 2021

مرتخي فوق لحاف مغطى بثوب رمادي رطب.  قربي طاولة خشبية ذات طلاء أسود، يدفئ  وجهها خصر الحاسوب. بجانبه  قلم أسود وورقة بيضاء  ينتظران الالتحام مع بعضهما من أجل كتابة ألم تذكرته فجأة، و لكن الكسل يؤجل هذا الالتحام. فالكسل أثقل جسدي هذه الأيام، حتى العطلة التي تنعم علينا بها يد  وزارتنا المتقشفة تمر بسرعة قطار هائج. لاهث.  يأكل المسافات بنهم.  تذكرت الآن ما قاله لي أحد الموظفين في قطاع التربية:

– لولا هذه العطلة التي يرتاح فيها الأستاذ قليلا لأصيب بالجنون!

إن هذا الأستاذ رأسه خاوٍ أليس كذلك؟ فلو لم يكن الأستاذ إنسانا مجنونا أصلا لما اختار مهنة الطباشير، والوقوف لساعات  في قسم ممتلئ بالأرانب التي تنط هنا وهناك، وهو يعصر دماغه بآمانة حتى يقنع نفسه أنه يستحق أن يكون رسولا صاحب رسالة. إن هذا ليس موضوعنا.  أعرف ذلك، ولكن دوافع داخلية هي التي ساقتني إلى ما قلت.

   والمهم؛ عندما أستيقظ كل صباح من صباحات هذه العطلة  الهاربة، أشغل أفلام قلة الأدب، وأفتح كتبا في الأدب. كتابا من الكتب الشعرية التي  نقشتها يد عبد الله زريقة و عبد الله راجع وآخرين، من الشعراء الذين يقفون في الصفوف الأولى من صفوف أدبنا الشعري الذي بدأ ينطفئ ويخفت و يصاب بالعطب. وأملنا في شعراء  جدد  يشعلون حطبه مرة أخرى. أغلق النص وأمضي بلهفة مفتعلة إلى الحاسوب حتى أكمل قلة الأدب. وفي المساء ألتهم صفاحات من رواية” أرصفة وجدران”، لدوستويفسكي  المغرب محمد زفزاف، صاحب اللحية  العتيقة التي تخفي فما صغيرا، داكنا من شدة التدخين، والشعر الفحمي المنفوش الذي ينبت في وسطه خط عريض من الشعر الرمادي. والعينان الغائرتان الفحميتان.  يبدو بهما من أول وهلة كبومة تنظر إليك بصمود وتحد، إنها البومة التي كانت عيناها الحادتان تبعثان دفقة احساس حاد في نفسي. . ولكن أين قابلت هذه البومة؟ وكيف؟ أه تذكرت، إنها البومة التي قرأت عنها في قصة  من قصص  غسان. ك  وعنوانها (البومة في غرفة بعيدة).

الآن أستمع للمطرب محمود الإدريسي

 (واش نزيدو مزال الحال

مزال الحال

ولا فات الحال علينا

عاد لقينا راحة البال

راحة البال

عاد سهر حلى لينا

(…)

 وأنا أردد هذه الأغنية المغربية القديمة، صعدت في صفحتي الفسبوكية تدوينه معتوهة عن الرحيل، أفسدت علي طعم تلك الأغنية. قلت في نفسي: تباً  كم أكره تعكير مزاجي من لدن البشر لكنني محترف في قتلهم بالتجاهل. تدوينه  مقتطفة من قطعة شعرية لشاعر  الزعتر و الوطن. الشاعر الذي كان يقف على ناصية حلمه ويقاتل بحروفه الغاضبة، متناسيا صواريخ العدو الغاصبة،  التي  تلاحق معطفه الشعري . الشاعر الذي قال في فلسطين أجمل قصيدة  ، أتذكر منها:

(…)

على هذه الأرض ما يستحقُ الحياة على

هذه الأرض، سيدَةُ

الأرضِ، أم البداياتِ

أم النهَاياتِ، كانت تسمى فلسطين

صارت تسمى فلسطين، سيدتي

أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياةْ

هل كان محمود درويش  مخدرا بالأحلام حتى يقول ما قاله عن محبوبته الجريحة؟ أم أن كأس “الكونياك” هي التي شحنته بجرعة حماس فراح الشاعر يمجد وطنه يمينا وشمالا، رغم أنه يعرف أن فلسطين صارت قطعة كعكة يتقلص حجمها يوما بعد يوم. واليوم أشقاء فلسطين برائحة القرابة، والذين،  هم من يلمعون السكينة التي يسرت عملية النحر(!).

هكذا فكرت.

***

أعرف أن صاحبة التدوينة وضعت عنوة تدويينة الرحيل حتى أقرأها، وأعرف أنها رسالة مشفرة ، فمنذ مدة أخبرتها أنني كتبت نصا سيكون خاتمة لكلامنا(( سأقف عن الكلام حتى لا تشتد حبال العاطفة بيننا)).((ولما؟ هل فعلت شيئا لك؟))((أبدا..  ولكن حان موسم الرحيل)). أعرف أنها تتحدث معي بحبور وشوق، فهي تشتاق لكلامي اللطيف الذي يفيض بالبهجة. كيف أصفها لكم؟ ما أستحضره ويلاحق ذاكرتي الآن هو:  اللون القحمي لبشرتها. العينان تفيضان بتعبير مرح، و النهدان ممتلآن مثل برتقالة طازجة، وجسمها كذلك ممتلئ، تبدو به مثل دب قطبي، وصوتها المتهدج مريح.  تقترب من الأربعين، وتمتلك من التلقائية والجسارة ما يجعلها محبوبة. ولكن ربما لا تعرف أنني شخص لا يبالي بحركات الدجاج الأخرق مثلها. شعرت بالغثيان وأنا أشم رائحة تدوينتها النتنة التي تزكم فضاء غرفتي.

ابتسمت ابتسامة مديدة على الدجاجة دون أن أنبس ببنت شفة معها،  ورفعت صوت التلفاز وأطلقت لساني أردد بلا مبالاة وبداخلي انتشاء بعد عملية القتل:

عاد لقينا راحة البال

راحة البال

عاد سهر حلى لينا

(…)

ثم فكرت في الخروج فجأة حتى أتلافى تلك الرائحة النتنة، و وقبل أن أعبر عتبة الباب ارتميت في حضن المرحاض الذي كانت رائحته أزكى من تلك التي انتشرت في الغرفة.

خالد النافعي – مدينة الرباط.

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :