الطاهري أيوب يكتب: نوستالجيا الموسم الدراسي الثالث ابتدائي بمدرسة البرادية المركزية … 

11 أكتوبر 2020
مازالت ذاكرتي تحتفظ جيدا بتفاصيل الدخول المدرسي الخاصة بي خلال سنة 2004 بمدرسة البرادية المركزية ، إذ كنت آنذاك قد انتقلت إلى مستوى الثالث ابتدائي بعد صيف حار جوا وتخمينا . الصيف كامل وأنا أدعو الله أن يجنبني الأستاذ الصالحي ، أي ألا أكون في فوجه وأكون في فوج أستاذ آخر ، لدرجة أنني حتى في خلوة المرحاض كنت أدعو الله ألا يجعلني أحد تلامذة الأستاذ الصالحي . ذلك الأستاذ المخيف بصوته وضربه والمفتول بعضلاته ، لا يتغيب عن حصصه ولا يسامح من سولت له نفسه التكاسل وإغفال الواجب المنزلي ، والذي إذا رآك في الشارع لاهيًا فاعلم أن حسابك عنده آتٍ . هكذا كان يخيل إلي شخص الأستاذ الصالحي ، وذلك ما اكتشفته بالفعل ، ومازلت على يقين أنه كما اكتشفت…
وصل موعد الدخول المدرسي مع بداية شهر شتنبر وكنت متعجلا في معرفة أسماء الأستاذين عندي في المستوى الثالث ، خائفا مضطربا مغبونا من أن أكون عند الأستاذ الصالحي . استيقظت في يوم معلوم للذهاب إلى المدرسة على حوالي الساعة السابعة صباحا ، أثرت انتباه أمي باستيقاظي باكرا ، إذ ستجدني أبحث عن حذائي الذي قضى معي شهور الموسم الثاني ابتدائي ، فمنذ انتهاء ذلك الموسم أنهيت صلته بقدميّ ، وصاحبت الصندالة الصيف كاملا بديلا عنه .
ألحت علي أمي ألا أمسك طريق المدرسة إلا عند وصول الساعة الثامنة إذ في هذا الوقت سيفتح الباب ويكون بإمكاني الدخول إليها واكتشاف أساتذتي في مستواي الجديد . حاولت أن أخفف من توتري واضطرابي بتناولي وجبة الفطور المعتادة ، وفي كل هنيهة أطل من النافذة على زقاق حينا بحي المسيرة – القرقوبة لعلي أرى أحدا متأهبا للذهاب إلى المدرسة فيكون رفيقا لي .
كانت تلك الساعة التي أنتظر فيها وصول الساعة الثامنة كأنها عام ، الدقائق ثقيلة وعقارب ساعة الحائط لا تكاد تتحرك وكأنها تكيد لي ، أمي في المطبخ تغسل أواني العشاء والباقي مازال خاملا في نومه . تمنيت ليتني مثلهم أو مثل أختي الصغيرة مازالت صبية لم تفطم بعد .
عقرب الساعة الصغير على مشارف الوصول إلى الساعة الثامنة ، أعددت نفسي للخروج آملا في إيجاد رفيق في الطريق ، وذلك ما حدث حين صادفت الصديق فؤاد اللوزي مباشرة بعد فتح باب منزلنا .
 في طريقنا شكيت لفؤاد اللوزي همي وخوفي من الأستاذ الصالحي ، فماكان إلا أن زاد من اضطرابي وترعيبي مما كنت أتخيله ، قال لي أنه يستعمل خرطوم قنينات الغاز للضرب في الصباح وفي المساء يستخدم الركل واللكمات القوية . يا إلهي هل هذا أستاذ أم ( بوكسور ) ؟! ، هل سيكون سببي في العزوف عن المدرسة والعودة إلى الجامع ( المسيد ) ، أبي فقيه أدخلني إليه في سن الثالثة ويريدني أن أكون فقيها مثله ، غير أنني هربت منه في سن السادسة بحجة رغبتي في المدرسة وليس الجامع .
طريقنا لم يكن طويلا بحكم قرب المدرسة من حي المسيرة القرقوبة ، وخوفي من الخبر المشؤوم أنساني أصلا أنني أخطو . وصلنا باب المدرسة إذ العديد من التلاميذ والأمهات والآباء .. ضجيج وصراخ و غبار أمام الباب ، الكل يريد الدخول لتأدية الواجب المدرسي والحصول على تسجيل الأداء الذي يكتب عليه اسم أستاذ القسم . وجدت نفسي مضطرا للانتظار في صف طويل قصد الأداء وأخذ التسجيل والتعرف على أسماء الأساتذة ، تلك الساعة التي انتظرتها في المنزل ستعاد مرة أخرى مع اختلاف الفضاء والنوستالجيا أيضا .
وصل دوري وأي دور ! ، أعتقد أن  الأستاذ الغزواني افتوح هو من كان مكلفا بعملية التسجيل ، لم يسألني عن مستواي الدراسي أول الأمر ، وإنما سألني عن اسمي . بنفرة بريئة قلت له أيوب الطاهري ، لم يتردد في قوله بأن اسمي رآه ضمن لائحة قسم الأستاذ الصالحي ، مباشرة أخرجها من تحت الأوراق . اسمي كان هو السابع ضمن تلك اللائحة ، نعم عند الأستاذ الصالحي ، ذلك المخيف بصوته وضربه والمفتول العضلات ، لا يتغيب عن حصصه ولا يسامح من سولت له نفسه التكاسل وإغفال الواجب المنزلي ، والذي إذا رآك في الشارع لاهياً فاعلم أن حسابك عنده آتٍ ، في الصباح يضرب بخرطوم قنينات الغاز وفي المساء يستخدم الركل واللكمات القوية .
عدت إلى المنزل جارا برجليّ خائبا مثل خيبة المحارب الإغريقي باتروكلوس في حرب طروادة ، إذ كان يعتقد أنه بحمله لدرع صديقه المنسحب آخيل سيتمكن من إبعاد الطرواديين عن بلاده بينما هو سيكون أول المقتولين بحمله لذلك الدرع حين أوهم جنود طروادة بأنه الشجاع آخيل .
غير أنني وإن كنت مختلفا تماما عن قصة المحاربين باتروكلوس وآخيل في قضية بلادهما ، فربما شعوري قد يماثل تلك الخيبة المريرة التي حدثت للمحارب باتروكلوس الذي ظن أن توسله بدرع آخيل سيكون طريق النصر فكان سببه في الموت .
وجدت أمي منهمكة في تنظيف المنزل ، أبي كعادته بعد استيقاظه يتوجه نحو الجامع عند حفاظ القرآن لمتابعتهم والسؤال عن أحوالهم ، خاصة الجدد منهم قصد تشجيعهم وحثهم على حفظ القرآن وتناول الحديث مع الفقهاء المشرفين على حفظهم .
حاولت أن أشكو لأمي هلعي واضطرابي من ( البوكسور ) الأستاذ الصالحي ، لكن كنت أعلم أن لا جدوى من ذلك ، فهي الأخرى مثل أبي لن تكثرت لأمري مادام متعلقا بالأستاذ الصالحي ، وسترفض رفضا قاطعا طلبَ أبي لانتقالي إلى فوج آخر غير فوج الأستاذ ( البوكسور ) .
ماكان علي إلا أن أواجه الواقع بما هو إذ لا مفر ، الأستاذ الصالحي أمامي والجامع من ورائي . في أول حصة عند الأستاذ الصالحي دخلت قاعته ولم تتوقف قدماي إلا عند آخر طاولة في الصف الأول على مدخل الباب ، لوحدي جالس أتوهم قدوم الأستاذ الصالحي متأججا ساخطا على كل التلاميذ حتى وإن كانت أول حصة .
بابتسامة عريضة تأخرتْ من حديثه في الساحة دخل الأستاذ الصالحي طويل النجاد رفيع الهندام . وقف وسط القسم  متحسسا في وجوه وجلوس تلامذته ، وما هي إلا ثوان حتى لمح موقعي واكفهار وجهي .
– ما اسمك ؟
– أيوب الطاهري
– أين تسكن ؟
– حي المسيرة القرقوبة
– هل أنت أخ معاذ ؟
– نعم
– تلامذة القرقوبة نجباء ويدرسون جيدا ، هل ستكون مثلهم ؟
– نعم .. بطأطأة الرأس
أمرني في الحصة القادمة بتغيير طاولة جلوسي إلى طاولة متقدمة نظرا لطول قامة الكثيرين مقارنة معي ، وأخذ حديثه يسأل عن التلامذة المكررين محصيا عددهم موبخهم مخوفا إياهم من التكاسل والتماطل ، ثم انتقل إلى وصف محتوى المادة وواجبنا تجاهها ، محذرا إيانا من أي تهاون أو بهتان . فهو لا يخشى أحدا غير الله مادام يسعى في تأدية إحدى عباداته ، ولن يَحُنًّ على أي أحد أبدا ، حتى وإن كانت ابنته سلمى التي تدرس معنا .
لم يمر ذلك الموسم الدراسي دون الأكل من خيرات ( البوكسور ) الأستاذ الصالحي ، ضغطه وترهيبه يفوقان ما ألفته في شخص فقيه جامع حفاظ القرآن ، في بعض المرات كنت أوهم أمي بمرضي حتى أتمكن من تغيب حصته والتبرير له بذلك ، بيد أنه في أحد المرات شك في تلاعبي فأمرني بإحضار الدواء معي لرؤيته . كان علي من السهل نوعا ما إقناع أبي بالأمر للذهاب معي بحكم عدم اقتناء الدواء ، هذه هي أول مرة وآخرها سيرافقني فيها أبي إلى المدرسة لتأكيد مبرر غيابي لدى الأستاذ الصالحي ، هو الآخر لو علم بتلاعبي لكان عقابه على منوال زملائه فقهاء حفاظ القرآن .
يتعانقان ويتبادلان التحية والسلام ، ابتسامتهما عريضة كصديقين لا يفترقان ، يسألان عن أحوالهما ومدى استعداد الفقيه لتراويح شهر رمضان الذي اقترب بأيام . بعد نفاد حديثهما أخذا النظر إلي ، اعتقدت أن ودهما من خلال حديثهما سيكون بردا وسلاما علي ، بينما هو سيكون محكمة وقيامة ، توبيخ وتقريع وعتاب وتهديد ، وإلحاح الأب على الأستاذ بأخذه كامل الصلاحية والتصرف في ردع الابن وجلده ، لا أعرف هل نَسيا سبب مجيء الأب الذي هو تبرير الغياب أم ماذا ، بدا لي أن أبي وكأنه جاء ليعتذر من الأستاذ الصالحي من كسلي و عدم اهتمامي بالدروس ، بينما أنا كنت  على اهتمام بدروسي فقط في بعض المرات أتظاهر بالمرض لأتغيب عنده ، وهذا هو موضوع لقائهما وليس فيما يتحدثان فيه عني ، لم تكن لدي الجرأة لتنبيههما إلى تحريف الموضوع ، وخفت أن يزداد خير الأستاذ ( البوكسور ) بعد كلام أبي ، وندمت على تحايلي و تظاهري بالمرض قصد الغياب . أعدت برمجة نفسي من جديد وزاد اهتمامي كثيرا بدروس مادة الأستاذ ( البوكسور ) إلى درجة المبالغة في مراجعة وإعداد الدروس وحفظها ، خائفا من الوقوع في قبضة يديه ، إذ لاشك أنه سيستحضر وصية أبي عند توزيع خيرات اللكم والركل .
بدأ الموسم الدراسي يقترب من الانتهاء ، ومعه بدأت الفرحة المتخفية من خلاص سيناريوهات الرعب والهلع في ( زنزانة ) الأستاذ الصالحي، وانتهت السنة الدراسية بشبه أمن وسلام مع الأستاذ ( البوكسور ) ، وتنفس التلميذ الصعداء ، إذ سيستقبل عطلة صيفية خالية من الهم والرعب والدعاء لله حتى في خلوة المرحاض ، مسجلا في حياته شرفا كبيرا له سيدركه فيما بعد ، إذ كلما ذكر اسم الأستاذ الصالحي اهتزت أحاسيسه ومشاعره تجاه هذا الرجل بوافر الفخر والعز و الإجلال.
الطاهري أيوب – بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

3 comments on “الطاهري أيوب يكتب: نوستالجيا الموسم الدراسي الثالث ابتدائي بمدرسة البرادية المركزية … 

  1. ههههههه والله حتا كنقرى و كنتفكر دوك الدكرايات عندو والأفلام لي وقعو لينا معاه وكان كيقرى معانا المتهوم هههههه المهم أنا كنختلف عليك جيت عند المعلمة زيتون ولكن حولوني عند الصالحي بغاو فيا الخدمة ههه مع الوقت عرفنا قيمة داك الأستاذ والله
    الله اطول لينا في عمرو

  2. ما شاء الله أكتر من رائع أتمنى أن اراها قصة متداولة للنشر قريبا

  3. عائشة أبريل 6, 2022

    مشاء الله قصة رائعة جدا

: / :