الحسين الرحاوي يكتب: في ميزان الفكر: السياسة والأدب والكورونا

13 أبريل 2020

 

العالم كله يعيش تحت وطأة زلزال مُدَوٍ حقيقي اسمه فيروس كورونا، هذا الزلزال أصاب البشرية في كل مناحي حياتها، ارتداداته لا تقتصر على ما هو صحي؛ طبي؛ اقتصادي فحسب؛ إنما يتجاوز ذلك إلى طرح أسئلة كبرى آنية حارقة على مختلف المنظومات التي تتحرك في هذا العالم، على شكل “غربلة” للأوضاع القائمة والمتراكمة، لإعادة رسم ملامح مستقبل البشرية بعدما أتلف الربان الأعور وجهتها.

الملفتُ للنظرِ؛ أنه كُلما تقدم بنا القرن الواحد والعشرون، وَجَدَ الإنسان نفسَه في عالمٍ متوحشٍ يهدد قاطنِيه قَاطِبَة بِالمرضِ، إذ صار الجميع معرضا لهجمات إرهابية بيولوجية، ولعل جائحة* كورونا واحدة من هذه الهجمات، فقبلها شهدت دول أفريقيا المتخلفة مثل (الإيدز والملاريا والإيبولا…) غير أن هذه الأوبئة والأمراض والفايروسات تستهدف حتى الدول المتقدمة اقتصاديا وتقنيا.. حيث أمراض القلب، والسكري، والسرطان، تهدد الإنسان أينما وجد، إضافة إلى ظهور سلالات جديدة من الأنفلونزا في كل أنحاء العالم (سارس المتلازمة التنفسية الحادة الشبيهة بفايروس كورونا ) الثقة الزائدة تؤدي إلى السقوط، هذا حال الدول التي استخفت بالفيروس([1]).

أمام هذا الوضع، يحق لنا، طرح تساؤلاتنا: ما العلاقة بين السياسة والأخلاق/القيم؟ هل فعلا كورونا وحدَت البشرية كما يُروج؟ ما محل المؤسسات الدولية من كل ما يجري (الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية)؟ وكيف أصبحت الحياة اليومية في ظل الموت اليومي؟ هل يقوم العالم فعلا على ركيزة الأسرة لخلق التواصل والمودة والتعاطف بين الأهل أم الضجر والنفور (التقرير الذي يكشف عن ارتفاع حالات الطلاق في الصين مباشرة بعد التغلب على الجائحة)؟([2])

السياسة في البداية خلق الطموح وفي النهاية تحقيق النقيض

لقد سعت الشيوعية لإيجاد العدل وإلغاء الامتيازات لكن انتهت إلى تبرير الظلم وتأكيد الامتيازات، وقد أدخل تشرشل بلاده في الحرب العالمية الثانية لإنقاذ الإمبراطورية البريطانية لكن الانتصار انتهى بانهيار الإمبراطورية، ولما طمح هتلر إلى ألمانيا عظيمة دَمَّرَهَا.

فالمتتبع لأخبار الفايروس الغير المنقطعة أو (خطاب المرض كما سماه الدكتور عماد عبد اللطيف)([3]) يجد تداخلا متشعبا بين ما هو وقائي؛ سياسي؛ إنساني؛ اقتصادي؛ اجتماعي.. هلم جرا، مع التركيز إعلاميا على جملة أكثر من غيرها: العالم لا شك سيتغير بعد كورونا/ ستتغير ملامح الخريطة السياسية.. وهو معطى ربما فرضه انحسار مفاهيم النيوليبرالية التي عشنا عليها إلى اليوم، واستعادة التوق إلى إعادة تكوين الشخصية القومية والثقافية التقليدية المستلبة في ظل نظام التبادل الحر الذي أدى إلى تركيز الثروات في أيدي أقلية من الناس الشيء الذي أدى إلى التراجع المهول في معدلات التنمية الاقتصادية في معظم الدول؛  مما فسح المجال أما المد الاشتراكي،  الصين ومعها دول البريكس(هي اختصار للدول ذات الاقتصاد الأسرع في العالم) لإعطاء نموذج بديل عن الرأسمالية المتوحشة، وهذا واضح من خلال الميل العام للإشادة بالسياسة الصينية الحازمة والناجحة في معالجة الأزمة([4])؛ فمحور الصراع إذا هو القيادة من سيحكم العالم. وأما هذه التطحنات فيجب على دول العالم الثالث أن تبدأ في التفكير في استقلاليتها عن الغرب الذي فَقَّرَهَا واستنزف ثرواتها وذلك عبر الانفلات من قبضة صندوق النقد الدولي.

بين السياسة والأدب

يحضرنا حديث السيد قطب عن الأدب: إذ يعتبره فعالية بشرية تهدف إلى صون الإنسان من التلوث، والعبث، والمجانية، وتسمو به إلى عالم القيم والمبادئ والأخلاق السامية الرفيعة، والسلوك الهادف البناء مما يحقق إنسانيته ويعبر عن إرادته وكرامته وسعيه الدائب والمستمر إلى عمارة الأرض والإصلاح بها([5]).

وقبله نجد يوجين يونسكو الذي يشكل الحلم قطب الرحى داخل أعماله التي تعكس الفوضى العارمة؛ يرى المستقبل مرتهنا بالفتوحات العلمية، جاعلا من الأدب شريكا في هذه الفتوحات؛ (ها نحن اليوم نقف عند أهمية العلم، ونسائل الأدب إلى أي حد تأدبنا؟ وإلى أي حد تخلقنا بالمبادئ والقيم النبيلة خاصة أمام مشاهد سقوط الأقنعة وإعادة طرح السؤال حول إنسانيتنا المزيفة التي نتبجح بها في فترات الرخاء).

عند يونسكو السياسة هي دوما متخلفة عن الأدب، ولا أمل في أن يصلح العالم على أيدي الساسة، لذلك يقول دوما إن الثورة الحقيقية إنما تحدث في معامل العلماء وفي محترفات الفنانين، انشتاين أو بنهايمر، بروتون، بيكاسو، كاندنسكي، بافلوف وغيرهم هم المسؤولون حقا… لأن السياسات الثورية مثل كل سياسة، ما أن تبلغ أهدافها تكون قتلت الجدوى من شعاراتها، عبر تنقلها من منصة إلى منصة، ومن لجنة إلى لجنة، ومن تعديل إلى القرار الآخر، فتفقد الفكرة ثوريتها، حين هي في الفن والعلم تظل راسخة.([6])

رتابة اليومي في زمن الموت

أصبح الوضع البشري في زمن الكورونا مثيرا للشفقة، حيث الفيروس يفتك بالجموع، مما انعكس على الحياة اليومية بشكل مباشر في جميع تفاصيلها، فقد بات الوضع وكأننا في عطلة طويلة الأمد مرعبة، فلا صوت يعلو على صوت سيارات الإسعاف ودوريات الشرطة، فالكل صار يتقن فن حوار النفس وسط أربعة جدران.. الشوارع فارغة من الحشود، والمسارح من الجماهير، المساجد مغلقة.. في انتظار العلاج خصوصا أمام تباين استراتيجيات تعامل السلط مع هذا العلاج أو ذاك. ولعل المتتبع للشأن العالمي سيلاحظ -لا محالة- الجدل المثار في بريطانيا من خلال اعتماد حكومتها استراتيجية ما يسمى ب “مناعة القطيع” (herd immunity)  والهدف من ذلك أن يصاب 60 في المائة من البريطانيين من أجل تشكيل مناعة ضد الفيروس… لتمديده وجره إلى فترة الصيف  (استنادا إلى الحقيقة العلمية التي تقول بأن الأوبئة تظهر في الربيع عادة، وتشتد في الصيف وتنحسر في الخريف والشتاء وربما تعاود الظهور في الربيع المقبل) … أو حتى خرجات الرئيس الأمريكي المتباينة الذي يلمح إلى التخلي عن كبار السن انتصارا للاقتصاد.. المهم من كل هذا هو النقاش الأخلاقي الممكن طرحه في ظل هذا الوضع.

على سبيل الختم

والحقيقة أن كوفيد التاسع عشر ليس ديكتاتورا، وإنما هو الفيروس الذي حل بنا ليوقظنا من سباتنا العميق، لكي نرتب الأولويات لنعيد الاعتبار للعلم والفن لنستعيد معنى الإنسانية ولنحافظ على ما تبقى لنا بعد التدمير الذي حَلَّ بجميع مجالات الحياة باسم الاقتصاد.

*  الجائحة pademic يستعمل هذا المصطلح انسجاما مع المعجم الطبي الموحد وتمييزا عن epidemic وهو الوباء، والجائحة لغة تعني المصيبة أو البلاء.

[1] –  http://pnn.ps/news/498396 تاريخ الدخول 11مارس 2020 على الساعة 22:00

([2])     https://masralarabia.net تاريخ الخول 11 أبريل  2020 على الساعة 21:00

[3] –  https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=11042020&id=da4ba3fb-232b-4f44-83cb-8aa22dbcd1b4&fbclid=IwAR2dYdDGVnKc5E9rMHuCdiizguAq1PurDxSrKUWWu1dRW63x-  تاريخ الدخول: السبت 11أبريل 2020 على الساعة 8:30

[4]  http://www.china.org.cn/china/2019-07/01/content_74938199.htm  تاريخ الدخول 11أبريل2020

[5] –  السيد قطب: في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 2622

[6] عصام محفوظ: مسرح القرن العشرين(المؤلفون)، الجزء الأول، ط2002، ص 48

الحسين الرحاوي – مدينة بني ملال

أستاذ اللغة العربية بالسلك الثانوي التأهيلي؛ وباحث في مجالي البلاغة والمسرح

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “الحسين الرحاوي يكتب: في ميزان الفكر: السياسة والأدب والكورونا

  1. مقال في غاية من الروعة و الدقة.. اوافقك الراي خصوصا في قضية الاولويات فعلا ف فيروس كوروناا ايقض فيناا الجانب النائم و نتمني ان ينتهي باقل الاضرار و ان نراجع انفسنا خصوصاا في قضية تربية الابناء على الابداع و الابتكار و ننشئ علماء المستقبل…. تحياتي صديقي دمت متألق واصل

: / :