البرهمــي زهيــر يكتب: جريمة التخلي عن أحد الاصول

19 يناير 2021

تقديم

      (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 23-24).

                الأم والأب، هما أساس حياتنا وأجمل ما فيها، كيف لا؟ وهما أوّل من تفتحت أعيننا على رؤيتهما، وأوّل من تعلّمنا على يديهم أوّل الحروف، ومشينا معهم أولى خطواتنا، وأوّل من زرع فينا كلّ الأخلاق الحميدة والقيم التي تظلّ معنا أبد الدهر والتي تبقى ملازمة لنا طيلة حياتنا، فالوالدان هما الحُبّ الأول غير المشروط، وهما العطاء الذي لا ينضب، وهما أُنسنا ومؤنسنا كلّ الأوقات، ورمز الوفاء الذي يستحيل أن نجده عند غيرهما!… من غير الأم والأب يكون سندًا لنا في السراء والضراء؟، فهما من يفنيا عمرهما في سبيل تحقيق السعادة لنا بكلّ أشكالها، فنجد الأم تحمل طفلها تسعة أشهر وخلالها تتحمل التعب والمشقة وآلام الولادة، مواسيةً نفسها بأنّ كلّ هذا العذاب يهون أمام رؤيتها لابنها الحبيب التي ما إن تلمحه عينيها حتى تدمع وتبدأ تضحيتها من أجله في الحياة لتربّيه أحسن تربية!، أمّا الأب فوجوده نعمة، فهو الذي يبذل جهده في حر الصيف وبرد الشتاء ليؤمّن قوت يومه، متحمّلًا التعب والإرهاق سعياً لكسب الرزق ليؤمّن لأولاده كلّ ما يحتاجون، فالأب هو عماد البيت الذي يقوم به، وهو السد المنيع الذي يقف ليحمي أسرته من أي ضرر أو ظلم يحيط بهم، وهو القدوة الأولى لهم والأهم في الحياة، فيتعلمون منه أسمى المعاني ويذكرون ما يعلّمهم من حكم تفيدهم في مستقبلهم فيما بعد، فمن كالوالدين اللذين يقدمان لابنهما الحب والحنان والرعاية، ويمنحانه الثقة والاحترام لنفسه ليكون معيناً لهما في كبرهما؟! حتى

           أنّ فضل الوالدين على ولديهما لا ينقطع بموتهما، بل يستمر إلى ما بعد ذلك، فحرص الأبناء على الإتيان بالأعمال الصالحة يُعتبر براً يؤجر عليه المرء بالإضافة إلى كونه عملاً صالحاً.

          الوالدان هما من أجمل نعم الله تعالى علينا، فمن أدركهما فليبرّهما بطاعتهما وإرضائهما، فلذلك فضل عظيم حثّ عليه ديننا الإسلامي ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: (مَن سَرَّهُ أنْ يُمَدَّ له في عُمُرِه، ويُزادَ في رِزقِه، فلْيَبَرَّ والِدَيهِ، ولْيَصِلْ رحِمَه) (حديث صحيح)، فاللهم احفظ لنا والدينا، وأدم الصحة عليهما ولا تحرمنا رضاهما وابتسامتهما وأعنّا على تقديرهما وطاعتهما دومًا.

           بعد هذا التقديم البسيط سأحاول ان اناقش ظاهرة عرفت انتشارا في مجتمعاتنا الإسلامية عموما وبالمغرب خصوصا وهذه المعضلة الغير الإنسانية تتمثل فيما يعانيه بعض الأصول (الاباء والأمهات وإن علو).

            حيث نجد أن بعض الأبناء يسمحون في أصولهم ويتركونهم وحيدين وهم في سن الكبر، انا لا اعمم وأقول ان الكل يترك اصوله لكنني اتحدث عن الفئة التي تقوم بهذا الفعل الغير انساني والذي في نضري الجرمي لما له من اثار على شخصية الأصول وعلى الاسرة خاصة والمجتمع عامة، وأيضا ينتفي تماما مع الشريعة الإسلامية والقيم الدينية والإنسانية.

         في موضوعي هذا سأتطرق إلى كل من الجانب الواقعي والمفترض وقوعه والجانب الشرعي وأخيرا التشريعي.

           

        أولا: الجانب الواقعي 

         في وقتنا الحالي أصبحنا نجد هذه الظاهرة تنتشر يوما بعد يوم، بحيث تغلغلت بيننا و أصبحت قائمة بذاتها، رغم كل المجهودات المبذولة من طرف الوالدين إلا أنهم يواجهون في الأخير تصرف غير إنساني من طرف ابناءهم، إما يرمون بهم خارج البيت أو يضعونهم في دور رعاية المسنين، فهذا الفعل الجرمي نجده في مختلف الاسر سواء الفقيرة او الغنية و هذا لعدة أسباب، أولها أن الشاب يتزوج و يقيم بعيدا عن والديه دون أن يتذكر بأن له والدين، حيث انه في كثير من الحالات يدخل تحريض الزوجة لكونها مائلة لعائلتها دون والدي زوجها، و قد يكون العكس، أي أن الزوج هو الأخر يحرض زوجته وهذا نادرا ما نجده، ثانيها الانفراد بالذات، يظن الشاب أو الشابة أنهم كبروا بما فيه الكفاية للعزلة و ينسون والديهم، دون منحهم أي اهتمام لا من الناحية المادية (الانفاق) و لا من الناحية المعنوية (المواساة)، ثالثا أن يكون ذلك الشاب أو الشابة من صغرهم ليس لهم علاقة جيدة مع ابائهم، لا يهتمون بهم لا ينصتون لهم وغيرها من صور عقوق الوالدين (التعدي اللفظي بالشتائم و الاقوال السيئة أو بالضرب علي الوالدين، إيذائهم نفسيا أو جسديا، التكبر عليهم …)، وهناك سبب أخر يتمثل في كون الأبناء لا يقدرون على تحمل مصاريف والديهم ويغادرون تهربا من المسؤولية، و في بعض الحالات يكون الوالدين مطلقين، حيث يكبر الأبناء مع امهم، رغم أن الاب ينفق عليهم عن بعد ولكن لما يكبر يسمحون فيه بمبرر أنه سمح فيهم و تركهم، أو قد يكون العكس لكن بنسبة قليلة، لان الحضانة في كثير من الحالات تكون للأم.

         زيادة على هذا فالمغرب يعرف ارتفاع في نسبة المسنين بـ35 في المئة حسب إحصائيات 2014، ما يثبت أن الشيخوخة باتت من بين التحولات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع المغربي في العقود الأخيرة، واعتبرت وزيرة المرأة والأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية بسيمة الحقاوي أن ما تقوم به الوزارة لصالح المسنين غير كاف لكنه يكتسي أهمية بالغة خاصة مع إحداث المرصد الوطني للمسنين، لمعرفة أوضاعهم ومواكبة التحول الديموغرافي والزيادة في أعدادهم.

      وتفيد إحصائيات رسمية بأن ربع سكان المملكة سيكونون مسنين في حدود سنة 2050، وغالبيتهم أميون ولا يتوفرون على تغطية صحية، من ضمنهم 173 ألف شخص يعيشون العزلة، وتمثل النساء بينهم نسبة 73 بالمئة.

      وكشفت دراسة أنجزتها وزارة المرأة والأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية، بالشراكة مع المرصد الوطني للتنمية البشرية، أن نسبة المسنين في ارتفاع متسارع، حيث إن المغرب يتوفر حاليا على 3 ملايين و200 ألف مسن، تتجاوز أعمارهم 60 سنة، في الوقت الذي لم يكن عدد المسنين يتجاوز مليون شخص عام 1960، حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط.

       وأكد باحثون في علم الاجتماع، أن هناك انحدارا في مستويات القبول المجتمعي بالشخص عند وصوله سن التقاعد كفاعل أساسي داخل عدد من الأسر المغربية، نظرا لكونه لم يعد معيلا للأسرة كما كان سابقا ما يؤثر على موقعه الاعتباري والرمزي، الأمر الذي يؤثر على علاقته بأفراد أسرته.

       وقال (طالب لبيب المساعدي)، رئيس جمعية معا لفك العزلة عن المسنين، إن “مسؤولية الدولة واضحة ومستعجلة، ويجب التفكير في سن قوانين جديدة تعطي الحق في الراحة وفي المواكبة والتكوين للمساعدين الأسريين الذين يعانون في صمت؛ إذ إن العديد منهم يموتون قبل المسن المريض نفسه”.

      ونبهت الدراسة التي أنجزتها وزارة المرأة والأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية، بشراكة مع المرصد الوطني للتنمية البشرية، إلى أن 8.7 في المئة من الأشخاص الذين تفوق أعمارهم 75 سنة عبروا عن شعورهم بالإقصاء الاجتماعي، وتنخفض هذه النسبة لدى الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و64، إذ عبر 6.6 في المئة منهم أنهم يشعرون بالإقصاء الاجتماعي.

   ثانيا: الجانب الافتراضي

           من العيب أن يدخل لدور المسنين أباء وأمهات ابناءهم على أرض الوجود، المشكل أن هناك أبناء أثرياء يقومون بهذا الفعل الغير الانساني، ففي نظري يجب على مسؤولي المؤسسات المعنية بأمر رعاية المسنين، القيام بفتح تحقيقات حول كل مسن، والبحث عن أبناءهم وتقديمهم إليهم وفي حالة الرفض، وجب على المسؤول التبليغ بالأمر للجهة التي تمثل المجتمع (النيابة العامة)، لكي يتم التحقيق في الأمر.

          قلت هذا لأن دور المسنين يجب ان تهتم بالمتشردين والذين ليس لهم أي أحد، ومن جهة نظري أن يتم الدمج بين كل من دور المسنين واليتامى وأيضا المؤسسات التي تهتم بالأطفال.

        يجب أن تكون توعية حول هذا الامر لأننا في دولة إسلامية، بالأخص الزوجات الذين يساهمون بشكل كبير في هذا الامر، فأنا لا أعمم لأنه يجب أن يعلموا أنه كما سيعاملون اباءهم سيعاملونهم أبناءهم.

       لدي يجب التحرك نحو مواجهة هذه الظاهرة والبحث عن حلول، قبل انتشارها في المملكة.

     ثالثا: الجانب الشرعي

          لقد بين لنا الله عز وجل في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فضل الوالدين وفضل البر والتحذير من العقوق والمعاملة السيئة لهما كما سنتعرف عليها سوياً في السطور القادمة:

          قال تعالى: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ).

        قال تعالى في حق الوالدين الذين كانوا من المشركين:( لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

         قال الله عزّ وجلّ:(وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)

          ورد في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود قال:” سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل؟ قَال: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ “

          قد ورد في الصّحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يقول:” إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُل أَهْل وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ، فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ يَحْفَظُ أَهْل وُدِّهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الإِحْسَانِ إِلَيْهِ”

         عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يقول:” الوالد أوسط أبواب الجنّة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه “

          عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:” رغم أنفه. ثمّ رغم أنفُه. ثمّ رغم أنفُه. قيل: من؟ يا رسولَ اللهِ! قال: من أدرك والديه عند الكبرِ، أحدَهما أو كليهما، ثمّ لم يدخلِ الجنّةَ “، رواه مسلم.

          عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال:” ثلاثة قد حرَّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاقُّ، والديُّوثُ الذي يقرّ في أهله الخبث “، رواه الألباني.

    رابعا: الجانب التشريعي

         نجد أن المشرع المغربي لم يتحدث عن هذا الموضوع المتعلق بطرد الوالدين والسماح فيهم أو الذهاب بهم لدور المسنين، لكننا نلاحظ أنه جعل قتل أحد الأصول ظرفا من ظروف التشديد بمقتضى الفصل 396 من القانون الجنائي بقولها (من قتل أحد أصوله يعاقب بالإعدام)، نتمنى أن يتم النظر في هذا الموضوع، والقيام بسن قوانين منظمة له.

     أما من حيث أركان هذه الجريمة فهي متوفرة وواضحة، فبالنسبة لركنها المادي يتمثل في المساس والاضرار بنفسية الاصول، وفي بعض الحالات يكون التعنيف الجسدي أيضا، أما فيما يتعلق بالركن المعنوي فيتمثل في الاسرار ونية طرد الأصول، حيث يدخل في بعض الحالات التحريض سواء من طرف الزوجة أو غيرها.

         ختاما، فإن انتشار هذه الظاهرة يعرف تزايدا يوما بعد يوم، ودور المسنين تمتلا يوما بعد يوم، يجب القيام بالحفاض على الأصول لأنهم كنز لا يعوض، والمسألة الأخرى أننا مسلمون، وديننا أوصى بالوالدين، فكما تدين تدان، وأنهي كلامي بقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

البرهمــي زهيــر – مدينة الرباط

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :