إسماعيل الراجي يكتب: ياقوتة الدوار

9 سبتمبر 2022

بادئ ذي بدء، يقول الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، المتوفي 328 هجرية، عن أصالة تسمية مؤلفه؛ العقد الفريد: “سميته كتاب لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السّلْك وحسن النظام؛ وجزأته على خمسة وعشرين كتابا،(…)قد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد اللؤلؤة الفريدة الزبرجدة، الجمانة، المرجانة..الياقوتة، الجوهرة، الزمردة، الدرة، اليتيمة.. السجدة.. المجنبة..»(2). فمن خلال هذا الشاهد، يبدو أن اسم الياقوتة، أحد أسماء الجواهر، وشاءت الأقدار أن تحمل امرأة اسم الياقوت، اسما على مسمى، أو كما تقول العرب لكل مسمى طرف من اسمه، فقد كانت الياقوتة جوهرة الدعاء، والأدب، والاحترام، والابتسامة…فما قصة هذا المرأة الكريمة؟
 

RadioMarocCulture Capture D’écran 2022 09 09 À 16.02.01

صورة ل”مي الياقوت”

في قرية تسمى _دوار_ أولاد لحمر، تتواجد بجماعة توغيلت، إقليم سيدي قاسم. شاءت الاقدار أن يشهد هذا الدوار، قصة حقيقية، تعبر عن مجموعة من القيم السمحة، والأخلاق، وروح الاحترام والتقدير للإنسان…كما كشفت هذه القصة عن أبعاد التكافل، والتعاون الاجتماعي في مجال القرية هناك..إنها قصة من تفاصيل الحياة الاجتماعية، تدل على ملحمة العيش المشترك.

RadioMarocCulture Capture D’écran 2022 09 09 À 16.02.13 1

صورة لدوار أولاد لحمر

إبان سبعينيات القرن الماضي، حل شاب، قوي البنية، أسمر اللون، يبلغ من العمر ما بين28و 35 سنة، أتت به ظروفه للعمل/الاجارة، لدى عائلة عريقة هناك بالدوار(خيمة سي لحمر)، في ميدان الفلاحة. دام عمل هذا الشاب الذي يدعى “فاتح” في القرية، أكثر من عقد، فمن العمل لدى أسرة إلى أخرى، إلى أن استقر به الحال، العمل عند الحاج امحمد بن الحسن(رحمه الله)، الذي يعد أقدم التجار في المنطقة هناك في تجارة “الكتان”.

على أثر سنوات لإجارة بالدوار التي قضاها “فاتح”، أصبح الرجل معروفا عند جميع أهل الدوار؛ بأخلاقه، وعزيمته، وقوته في العمل. فشاءت الاقدار، مع تقدم العمر، وخروج فاتح رويدا رويدا من سن الشباب إلى سن الكهولة، أن تعرض لوعكة صحية، أتت على بصره، فأصبح بصيرا، لا حول له، ولا قوة على ما ألم به، حيث يعرف ذلك المرض محليا، الذي تعرض له “فاتح”، بمرض “العمى الأزرق”.

من كرم وأخلاق التاجر الذي عمل عنده فاتح، أن أواه، وحرص أهل بيته الكرام على خدمته، وتوفير له ما أمكن من سبل العيش. ومن المشاهد التي تؤكد على هذا الاتجاه؛ حين انتقل التاجر من الدوار إلى سكنه الجديد في مدينة جرف الملحة_ التي كانت حينئذ، ما تزال شبه قروية مجاليا_؛ فأخذه معه إلى هناك، وأعطاه بيتا، وحرص أهله على توفير جل ما يلزم المريض البصير. وقبل هذا، كان “فاتح”، أن أصبح في الدوار، ينادى عليه، ب”با فاتح”؛ نظرا لتقدمه في العمر، وهذا شاهد من شواهد علامة التوقير من المجتمع المحلي هناك. على هذه الحال الذي عليه، “با فاتح”، كان الحديث عن عائلته، من بين الأحاديث التي يتم التطرق لها، فأين عائلة با فاتح؟ وما قصتها؟

في هذا السياق، ومن وحي بعض الروايات الشفوية المتداولة عند بعض الافراد والاسر؛ ممن كانت تربطهم علاقة صداقة أو تعامل مع با فاتح. أن با فاتح، توفى أبوه في سنوات مبكرة من حياته، وأمه لا يعرف أين أخذتها الاقدار،  وله أخت اسمها الياقوت تعمل عند منزل قاض بفاس. وهناك إشارة إلى أحد أعمامه حيث، يحكى أن با فاتح كان يتحدث عن عميه الذي سهر على تربيتهم، حينما كانوا صغارا هو وأخته. وتفيد الحكاية في هذا المضمار، أن بافاتح حينما كان يعمل عند التاجر، كان يطلب منه، إعطاء جزء مهم من ثمن اجارته لعمه، الذي كان يعرج على “قيطون” التاجر في سوق “خميس سطا”.

وحسب هذه الروايات، يبدو جليا، عائلة با فاتح من الاسر التي تقطعت به السبل في منتصف الأول من القرن العشرين، نظرا لحالة الفقر، والعوز، والظروف الاجتماعية التي وجدوا فيها.

دام با فاتح مقيما عند الحاج امحمد التاجر، حوالي عقد من الزمن وهو بصير، إلى يوم شاءت الاقدار، أن تصل أخته الياقوت_ شابة في عقدها الثالث_ قادمة من مدينة فاس؛ تبحث عن أخيها الذي يتواجد بنواحي جرف الملحة. فالمعلومة عندها حسب ما يروى، فسألت عن دار الحاج، فدلها الناس هناك؛ إلى أن طرقت باب الدار. فاستقبلها أهل الحاج؛ حيث يشهد الجميع من في القرية على كرم السيدة مليكة، كريمة الحاج، التي كانت تقوم بفعل الخير، وما يزال من تجاوروا معها في الدوار يتحدث عن كرم تلك المرأة الموقرة(رحمها الله).

التقى الأخ البالغ من العمر تقريبا 50 سنة والأخت في عقدها الثالث، بعد ما فرقت بينهم الظروف القاهرة لسنوات، عاش كل واحد منهما في شبه منفاه الاجتماعي، بمرارة فقدان أثر الام التي حسب راوية الأخ والاخت تسمى “العنبر”. فلأول مرة تجتمع نواة من عائلتهم تحت سقف واحد، بعد شتات لسنوات عدة.

على أثر هذا اللقاء، ستمسك الياقوت الشابة، زمام مسؤولية أخيها، وتقرر الرحيل به إلى حيث تقدر الأقدار. ويبدو حسب بعض الحكايات حول هذا الامر، أن “با فاتح”؛ عرض اعراضا تاما، على الذهاب إلى أي مكان، خارج المحيط الاجتماعي الذي ألفه خلال عقدين الأخيرين ونيف_أولاد لحمر، جرف الملحة_ فاختار أن يوجه أخته للعودة به إلى دوار أولاد لحمر. وهذا ما كان بالفعل.

ففي أواخر التسعينيات، عاد الياقوت، وأخيها با فاتح للدوار، كعابر سبيل، لكن تشاء الاقدار، أن يصبح هذا العبور العابر، موطن ما تبقى من حياة العمر. ها هو “با فاتح” والياقوت في الدوار، حطا الرحال، تحت شجرة البطم، بمدخل الدوار من ناحية مدخل “سيدي موسى”. يحاول أحد الأطفال التقرب منهما، فهم بالنسبة له غرباء عن الدوار، فحين وصل الطفل، وجد با فاتح، ومع امرأة تشبهه في كل الملامح الخرجية؛ لونا، وملامحا، يعلم الطفل من يكون با فاتح؛ فهو معروف عند جل الساكنة هناك بدوار أولاد لحمر. فعاد الطفل أدراجه إلى”الخيمة” ليخبر أمه بما شهد. فما كان من أمه إلى أن تفقدت من تحت الشجرة لتعطيهم المعروف(الماء والطعام). وستصبح المرأة الكريمة التي تعدى، السيدة خديجة كريمة العيصوص، من أكرم الناس، وأبرهم بجوار با فاتح والياقوت في حياتهما بالدوار. بعد أن تقربت، منهم رحبت بهم. ومن لغة با فاتح والياقوت:

  • الله يرحب بيك أللا..

كانت “مي خديجة”، هي أول من علم بشأن قضية با فاتح، واخته، فقامت بالواجب. ومن حسن قدر با فاتح والياقوت، وجود “كوخ” على أرض ورثة الحاج أحمد بن الهاشمي، بالقرب من المجرى المائي، الذي يطلق عليه محليا “الشرشيرة”.

كان ذلك الكوخ، يستضل تحته رجال من الدوار يعملون في “الكاريان” من الحر والقر، جراء انتظار شاحنات القادمة، لنقل الرمال من واد ورغة، الذي يمر بمحاذات أراضي الدوار من ناحية الشمال.

 على أثر تلك الصدفة، سيكون هذا الكوخ البسيط هو مستقبل السكن ل با فاتح والياقوت. وحول ذلك الكوخ_ “الشامخ” بسكانه الجدد والمباركين_هو في الواقع يبدو وكأنه، نصبا تذكاريا شاهدا على الزمان الأول في الدوار، شاهد على نمط البناء الاول الذي كان يعتمده المجتمع لتشييد مساكنه.

RadioMarocCulture Capture D’écran 2022 09 09 À 16.02.25 1

يبدو أن صورة الكوخ، أعادت لكل أبناء الدوار الذاكرة إلى قصة حياة من سكنه، فهنا عاش با فاتح ومي الياقوت التي أصبحت أم الجميع لأبناء الدوار، ومن منا لم تأمره أمه، بأخذ معروف ما؛ خبز أو حليب، سكر، زيت، أو حلوى…لها: “أجا هاك تسخر لعند أموك الياقوت”…

 

 

منذ أول يوم لاستقرار با فاتح ومي الياقوت بذلك الكوخ، والناس في الدوار؛ الجيران، وغيرهم في اتصال مباشر مع “مي الياقوت” وأخيها با فاتح، يترددون عليهما بالأكل والماء الشروب، وكل ما يحتاجه سكان الكوخ. فمن شيم الناس بالدوار كابر عن كابر، إعطاء المعروف. استمرت هذه المعاملة على هذا المنوال، إلى أن أصبح المجتمع الحمرواي يعتبر با فاتح ومي الياقوت جزء لا يتجزأ من “اجماعتهم”. في مقابل هذا، كان عطاء سكان الكوخ أكثر عطاء، فمنذ ذلك اليوم، ودعوات مي الياقوت وبا فاتح ترفع لعنان السماء، لأهل الدوار بالخير والبركة والستر…إلخ.

منْ من الأجيال التي عاصرت مي الياقوت، لم يشهد ذلك المشهد اليومي لمي الياقوت واخيها با فاتح، وهما جالسين أمام الكوخ…؟ تخرج مي الياقوت، وبا فاتح في كل يوم، بعد أذان العصر  إلى أمام الكوخ(المرح)، على أبهى حلة؛ كانت من عادة لباس با فاتح، ارتداء الجلباب، ويضع على رأسه “شدادة”، وفي يديه السبحة…، بينما مي الياقوت، دائما ترتدي قميص أو قفطان، وتضع غطاء الرأس بطريقتها الخاصة. يتوسط جلستهما “براد” من الشاي…الناس تمر؛ تفشي السلام، ويسلمون عليهما، بود واحترام قل نظيره، فيضيف أهل الدوار بسمة أخرى لحياة مي الياقوت وبا فاتح. تتفاعل مي الياقوت وبا فاتح مع المارة برد السلام والدعاء معهم بالسلامة والصحة والعافية. ومن المشاهد الآسرة، ابتسامة با فاتح ومي الياقوت. يستحيل أن تمر على با فاتح، ولا تجده مبتسما، ابتسامة عريضة، تعطيك شعورا من حيث لا تحتسب، بأن تقابلها بابتسامة أعرض منها. وفي هذا السياق تلح علينا لغة با فاتح؛ فلم تكن لعته عادية، كانت لغة أدب، واحترام، وتقدير لمن يحاوره أو يناديه، فمن أدبيات لغة با فاتح التشريف للكل :

  • ” أختي الحبيبة”.. “ألآلة الحجة”…و إلى ما ذلك من لغة الاحترام الجم.

أما مي الياقوت، ففلسفتها في التعامل مع الناس كانت أكثر حيوية، وأكثر نشاطا، إذ كانت دائما تستقبل ضيوف القادمين عند الأسر هناك؛ بالصلاة على النبي والزغاريد، فيبتهج الضيف أو العائد من السفر بهذا الاستقبال الخاص، ويعرج عليهما، ويتبادل معهم التحية بأحسن منها. فما من إنسان من الدوار أو ضيف، مر من أمامهما؛ ورأته مي الياقوت وسمع به با فاتح، إلا ورموه بدعاء الخير…طريق السلامة، النجاح، التيسير، الصحة…إلخ. إنها مشاهد يومية، دامت سنوات وسنوات.

لقد سمح ذلك الموقع الذي عليه الكوخ، بأن تتعرف مي الياقوت على ضيوف الدوار، نهيك عن أهل الدوار، فذلك الموقع هو الطريق للمدرسة الابتدائية، والقريب من المقبرة، وعبره المدخل الرئيسي للدوار. من خلاله تعرفت مي الياقوت على المعلمين، وكل التجار الذين يتوافدون على الدوار، من صاحب قنينات الغاز(البوطة)، الذي كان يهديها أسبوعيا قنينة، وصاحب المشروبات الغازية، نفس شيء، يقوم بإهدائها ما ألذ من مشروبات، وكل من دخل الدوار بمنتوج، إلا وأجاد على مي الياقوت وأخيها…إذ كان على حد تعبير البعض من الدوار “يفيض عليهما الخير من كل جوايه”. مرت سنوات على هذا المنوال، كوّن كل من با فاتح علاقة صدقات مع أفراد من الدوار، كانوا يجالسونه، ويتقاسمون معه إبريق الشاي والحديث. وكذلك شكلت مي الياقوت صدقات هي الأخرى مع نساء من أهل الدوار…(تتمة القصة  في المقال القادم)

(1) هذا الموضوع، أهذه إلى روحك الطاهرة: “مي الياقوت”، وستظلين خالدة في ذاكرتنا أجيالا، وأجيال، فليس كل رحيل رحيل. ومن هذا المنبر أيضا، نشكر كل من ساهم في اسعاد “مي الياقوت” وأخيها “با فاتح” في حياتهما، أو كان سببا في الحرص على راحتهما، أو بادر بأي عمل في سبيل تحقيق عيش كريم لهما. وغيتنا من هذا المقال أن نوثقة هذه القصة من جهة، وأن نحفظها عند الأجيال اللاحقة.

(2) أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد(الجزء الأول)، تحقيق مفيد محمد قميحة، ط1(لبنان، دار الكتب العلمية، 1983م)، ص7.

إسماعيل الراجي – جماعة سيدي قاسم

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “إسماعيل الراجي يكتب: ياقوتة الدوار

  1. يوسف البوطي سبتمبر 11, 2022

    تحياتى صديقي جعلتنا نتسوق للحزء الثاني

: / :