منى الهردي تكتب: إنتحار مؤجل

9 يناير 2020

في هذه الليلة الكئيبة وهذا الصمت المخيف في غرفة موحشة لا يُهَون عني إلا صوت بوم خارج الغرفة وكوب قهوة شديد السواد بدون السواد يترجم الوجود.

الليلة فقط كل شيء على غير عادته، فعادة ما كنت أشغل أغنية لفيروز أحلي بها قهوتي المرة ولو لحظة وهي تقف عند “أنا لحبيبي وحبيبي إلي …” و فوضى غرفتي على غير حالها تبدو أكتر ترتيبا حتى ضوء القمر لم يتسلل هذه الليلة إلى غرفتي وقرص الموسيقى الذي سجلت عليه رائعة بيتهوفن < ضوء القمر > في مكان ما في هذه الغرفة ولا أدري أين ؟ . ولولا هيمنة المفهوم لحل صوت البوم في الخارج محل الموسيقى ولكان في ذلك جلوة الوضوح وبيانه عما ينطوي عليه هذا العالم.

تسح السماء مطرا فيطرق زجاج غرفتي المكسرة فأبعث من رماد الذكريات فينقا أصابته لعنه الخلود ، سيزيف أنا حكم علي الوجود بدحرجة صخرة الذكريات إلى قاع القبر.

وأنا على يقين أن أبشع ما تهبك الحياة عقابا بما كان يوما الحياة، الحب تلك المفاجئة العظيمة الذي يهديها لنا القدر لنشقى … قبل عشرون سنة من الليلة لم تكن تختنق رئتاي مع كل سيجارة وأرتشف خيبتي مع كل كوب قهوة ولم يكن لينسحب دمي ويكف عن التدخل بيني وبين لست أدري ماذا ¡ لولا إحياء الذكريات وبعثها.

في لحظة استرجاع شريط ذكرياته كان يبتسم هنيهة ويعود إلى حالة شحوبه وكآبته من جديد ، لعله استرجع ذكريات ليلة من ليالي حبهما الخالد كالوشم في ظاهر اليد ، قادته الذاكرة هذه الليلة إلى ذكرى عزفه لها على البيانو ، فقد كان عازفها المبدع الذي يجيد تمرير أنامله على مفاتيح قلبها ، أكتر مما يجيدها على البيانو ، كان يعزف بكل وجدانه خالقا قصة حب بكل نوتة ويستشعر الدفئ الذي يولده الحب في قلبها ليملأها بالحياة، كان قادر على تحويل سُلم الموسيقى من ^دو ري ما فا صول لا سي دو ^ إلى كلمة أحبك

هذا ما استنبطته وهي تأخد جولة في عينيه وتستكين بهدوء على شاطئ صدره مع عزفه الذي يتقلب إيقاعه كل مرة، ومع الكتير من الإصغاء أيقنت أنه ختم عزفه بعزف حزنها وبعث جراحها في كل نوتة. نجحت في الحفاظ على هدوئها في تلك الليلة لكنها لم تستطع إخفاء ضجيج نبضها ولا في تسكين قلبها الذي تكاد تسمع محاولاته في القفز من قفصه الصدري. لملمت شظايا انكسارها ورحلت على لحن الوداع الذي كتبه القدر، ولم يملك هو أمامه سوى النظر إليها للمرة الأخيرة.

استفاق من رحلة الذاكرة هذه وهو يردد كانت من بين الاشياء التي تحدث مرة واحدة في العمر، وسجل في مذكرة تآكلت وريقاتها في صفحة طبع عليها أحمر شفاه

كيف للحب أن يأتي دفعة واحدة ثم يرحل ببطئ شديد ويستل معه نياط القلب؟ وتابع الكتابة ؛ لا أدري إذا كانت ستصل هذه الكلمات إلى روحك في السماء أم إلى قلبك الذي ما زال ينبض في جثتك المختفية تحت مياه نهر الليثون العميق.

وعلى صفحة أخرى كتب وهو يمتص أخر سيجارة في العلبة؛ أن لا تكون أهون من أن تكون بلا روح، بلا قلب، بلا حياة.. عزيزتي صدقيني لولا الكتابة لما تنازلت عن التفكير في الموت واللحاق بك تلك الفكرة التي كلما بدأت أتخلى عنها خيل إلي أنني أعيش الغش في الوجود، أني أخدع أحدا في هذا الكون.

وسقطت مذكرته على صدره وغط في نوم عميق ، ربما ينهض غدا ليمارس طقوس حزنه وربما لا.

.

.

منى الهردي –  مدينة اسفي

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :