حسناء المرابط تكتب: الهوية الجندرية وتقسيم الأدوار بين الجنسين ” -مقاربة سوسيولوجية

6 مارس 2021
 
 
تترسخ الهوية الجندرية من خلال عمليات التنشئة الإجتماعية التي تبدأ منذ الميلاد وتستمر عبر فترات العمر المختلفة، وتهدف عملية التنشئة الإجتماعية إلى تحويل الكائن البيولوجي إلى كائن اجتماعي وثقافي من خلال إكتسابه لكافة قيم المجتمع.
ويشير مصطلح التنشئة الإجتماعية إلى العمليات التي يكتسب من خلالها الأفراد الأنماط و الخصائص على أساس النوع ويكتسبون معنى الذات، وتعمل عملية التنشئة الإجتماعية على تحويل “المادة الخام ” للجنس البيولوجي لسلوكيات وشخصيات متشابهة على أساس النوع، أي أن فئة الجنس تستدعي عمليات محددة للتنشئة الإجتماعية، وبالتالي لا تفسر التنشئة الإجتماعية اختلافات للجنس من خلال الاستشهاد بالعوامل الوراثية أو البيولوجية بل من خلال التأكيد على كيفية تشكيل سمات الأفراد ،واستعدادتهم ،وميولهم من خلال مواجهتهم في المجتمع والاختلافات والتشابهات الجينية من خلال عمليات محددة تبدأ حتى قبل الميلاد.
هنا نطرح مثالا جليا حتى تتوضح هذه الفكرة أكثر، فما يجعل الشخص يتصرف كرجل أو كامرأة هي أعراف وقواعد وثقافة المجتمع عموما ولا دخل للعوامل البيولوجية بذلك.
إذن يتعلم الأفراد ماهو متوقع منهم بإعتبارهم ذكورا أو إناثا من خلال عملية التنشئة الإجتماعية وسوف يتم تقديمهم جزئيا على أساس كونهم “ذكورا” أو ” إناثا”.
إذا ما قمنا بالغوص في هذا المفهوم أكثر فيمكننا الحديث عن التنشئة الإجتماعية التي تميز كل جماعة ومجتمع على حدة فكما هو معروف ومتداول و راسخ في جماعة اجتماعية ما تجده مجهول و محظور في جماعة أخرى، ( مثلا في ثقافتنا إذا ما أدمنت الفتاة التدخين سيكون أمر معيب جدا بينما الأمر عادي بالنسبة للرجل لكن في ثقافة أخرى الكل سيان والكل حر في فعل ما يشاء ) وبالتالي فإن كل مجتمع يقوم بترسيخ مختلف الرموز و الدلالات التي تخص ثقافته وذلك ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية الأولية التي تقوم بها وتلقنها كافة المؤسسات في المجتمع، نذكر بالخصوص المدرسة باعتبارها البيت الثاني للفرد و مجتمعا مصغرا فيه يتلقى الفرد مختلف القيم الدينية و المجتمعية بصفة عامة كما تبذل جهود جهيدة في محاولة إدماج الأفراد في مجتمعهم، و حثهم على التحلي بكل المبادئ التي ينص عليها موازة مع ذلك هناك جماعة الرفاق والمسجد وكذا الحي ثم النوادي الرياضية و الشارع بمختلف روافده و غيرها من المؤسسات و الأشخاص و المحيط الذي يحتك به الفرد لبناء شخصيته و هويته وفق قيم و اتجاهات المجتمع، ووفق هذا المحيط والهوية باعتبار أن الفكرة يكونها كل من الرجل و المرأة عن نفسه أي تصرفها كرجل أو تصرفها كامرأة كل ذلك نابعا مما يغرسه المجتمع في كلا الجنسين منذ سن مبكر جدا و الهوية الجندية غير مرتبطة بتأثير البيولوجية أو الخصائص البيولوجية فقط بل نتاج ثقافة المجتمع بعاداته و تقاليده كلها .
فعلى سبيل المثال نجد في عهد السلطة الأبوية كان الرجل بالغ القوة ذلك لأنه كان مسؤول على توفير الغذاء والحماية والأمن وسبب هذه الهيبة التي أكسبه إياها مجتمعه، فقد خلع عن المرأة كل حقها في انتقال الملكية، وحرمت حتى من الميراث وبالتالي أصبحت من أملاك الرجل ولا تكتسب صفة الشخص حتى الأب يستطيع قتل بناته بعد الولادة ذلك لأنها لا تكتسب أية أهمية بالغة في المجتمع ومن ثم حين تكون الأسرة والملكية الفردية أساسا للمجتمع تكون المرأة عديمة المركز .
إذا ما عدنا إلى فجر التاريخ و تحديدا منذ نشأة الإنسانية نجد أن هذه الأخيرة أتاحت للذكور ميزاتهم البيولوجية وأن يؤكدوا أنفسهم كسادة وحدهم ولم يتخلوا قط عن هذا الامتياز وبالتالي كان محكوما على المرأة أن تكون من الجنس الثانوي الآخر فقد حكم عليها أن لا تستمتع بالسلطة إلا بصورة مؤقتة، و مكان المرأة في المجتمع لم يكن سوى ذلك الذي خصصه لها الرجل وبالتالي لم تعد المرأة سوى عبدة ، بعدما كرست للإنجاب و الأعمال الثانوية ولم تعد تكتسي أية أهمية .
ومن جهة اخرى إذا ما عدنا إلى مجتمعنا و تحدثنا عن مفهوم الأنوثة أو الهوية الأنثوية في الأمثال والحكايات الشعبية والأدب والسياسة، والفن، القانون تختزل في كون المرأة انفعالية وطريفة، حساسة وصبورة، عاطفية وساذجة وذلك في مقابل السمات الذكورية التي تتمثل في القوة والعقلنة والاستقلالية والتنافس والسبب في ذلك العقلية الذكورية كما اكد ذلك بيير بورديو في كتابه ” الهيمنة الذكورية “. ( ففي مجتمعاتنا دائما ما تنسب للمرأة صفات الضعف مثلا لا يسمح لها بالسفر بمفردها أو دون محرم خاصة إذا ما كانت المسافة طويلة و أن المرأة مكانها الحقيقي هو المطبخ و المكوث في البيت فهي غير قادرة على مجابهة الخارج وكل ما يرتبط به …).
والحديث عن هوية الجندر بدل هوية الأنوثة على اعتبار أن اختلافات الجندر هي اختلافات ثقافية محضة، و ترى بتلر أن النوع هو هوية تكون على نحو غامض في سياق الزمن وهو نمط مرن يظهر في سلوكيات الناس أكثر مما يظهر في طبيعتهم .
وفي نفس السياق تؤكد سيمون دي بوفوار في كتابها ” الجنس الآخر ” أن المرأة كانت في فترة زمنية ما في حالة جمود ولا تجسد من المجتمع إلا ناحيته الساكنة المغلقة على نفسها، في حين الرجل احتكر المهام التي تفتح له في المجتمع المجال على الطبيعة وعلى الجماعة البشرية.
حيث كانت المرأة في مطلع القرن التاسع عشر مستثمرة ببشاعةأكثر من العمال الذكور وكان أرباب العمل يفضلون النساء على الرجال والعبارة القائمة “يعملون خير من الرجال وبأجور أخفض تلقي النور على مأساة العمل النسوي.
إن ماركس وإنجلز يقدران أهمية هذا الحادث ويعدان المرأة بحرية تفرضهما حرية البروليتاريا، وقد بين إنجلز أن مصير المرأة كان دائما مرتبطا إرتباطا وثيقا بتاريخ الملكية الخاصة التي إستبدلت الحق المركز إلى الأموية بالحق الأبوي إلا أن الثورة الصناعية ستعيد إلى المرأة حريتها السلبية .
بالعودة إلى كتابات سيمون دي بوفوار نجد أنها تأكد على أن السبب العميق الذي حصر المرأة في العمل المنزلي في بداية التاريخ ومنعها في المساهمة في تعمير العالم هو استعبادها لوظيفة التناسل، أي أن حصر المرأة في عملية الإنجاب فقط هو ما جعل منها كائنا ضعيفا لا يصلح إلا للمساهمة في بقاء النوع البشري .
إذا ما عدنا إلى عصر الثورة الصناعية تحديدا عندما إنتشرت ظاهرة نحو التصنيع، إرتبطت بها تغيرات مجتمعية مهمة أخرى مثل التحضر والتحضر كان يعني اتساع الفجوة بين العمل و الأسرة من الناحيتين الجغرافية والرمزية، وقد ساهم في تسهيل هذا الانفصال تقسيم القوانين والترتيبات المعمارية العديدة التي خلفت حدودا تفصل بين المناطق السكنية والصناعية وقد تم تعزيز هذه الحدود المادية بين العمل والأسرة حتى خلال تقسيم العمل على أساس النوع ،ففي الطبقة الوسطى أصبح مكان العمل مجالا للرجال بينهما ثم إعتبار الأسرة مجالا للنساء والأطفال.
يلاحض كل من ريسكن وبدفاك أن تقسيم العمل الجنسي للعمل الذي اعتبر العمل مهمة الرجل و المنزل مهمة المرأة، إنما شجع أصحاب العمل على بناء المهن على أساس افتراضات بأن كل العمال دائما كانوا رجالا و أن لكل هؤلاء العمال زوجات يبقين في المنزل، هذه الافتراضات تدعم أيضا الاعتقاد بأن العمل المنزلي من مسؤولية المرأة حتى بالنسبة للمرأة التي كانت تعمل خارج المنزل .
في نفس المنحى وبالرجوع إلى نظريات التنشئة الاجتماعية نجد على سبيل المثال نظرية التعلم الاجتماعي تؤكد أن أدوار النوع إنما تكتسب من خلال عمليات التعزيز فسواء حدثت هذه العمليات بصورة مباشرة في شكل مكافآت أو عقوبات حدثت بصورة سريعة من خلال الملاحظة فإنها تمثل وسائل أساسية لإكساب الأطفال السلوكيات المناسبة للنوع، و تؤدي المعاملة المختلفة للأطفال الإنسان والذكور من جانب الوالدين والعوامل الأخرى للتنشئة الاجتماعية تؤدي إلى اختلافات في سلوك النوع ( مثلا اصطحاب الأم لابنتها إلى المطبخ و تعليمها أساسياته يرسخ في لاوعي الأنثى أن عمل المطبخ من اختصاص الإناث فقط، بينما أخذ الأب لابنه من أجل مساعدته في دكانه أو عمله في المجال العمل يعمل على التأكيد بأن الذكور خلقوا للعمل في المجال العام أو خارج المنزل ) .
إن التعريف التقليدي للأنوثة من شأنه أن يجعلنا نطمئن إلى عدة أبحاث فعدد النساء العاطلات عن العمل يكتسي أهمية أقل من عدد الرجال العاطلين عن العمل بما أن مكان المرأة في البيت؛
من الناحية الأنثربولوجية هناك مجموعة من الدراسات الأنثربولوجية بينت أن التقسيم الكلاسيكي بين الجنسين الذي يقوم فيه الرجال بمزاولة العمل في المجال العام و النساء بمهام المجال الخاص ليس كونيا بل يختلف من ثقافة إلى أخرى و من مجتمع لآخر ومن مرحلة تاريخية لأخرى وتعد مارغريت ميد من الأنثربولوجيات اللواتي كان لهن مساهمات غنية في مجال النوع الاجتماعي حيث أنها أثبتت من خلال دراساتها الكثيفة التي قامت بها في غينيا الجديدة أن تقسيم العمل الجنسي يختلف باختلاف المجتمعات ففي دراستها عن قبيلة تشامبولي في غينيا الجديدة بينت أن تقسيم الأدوار بين الرجال والنساء يختلف عن شكل التقسيم السائد في غالبية المجتمعات حيث تزاول النساء أنشطة مختلفة في المجال العام من زراعة و تجارة وصيد أي أنهن موجهات لتوفير الحاجيات الأساسية للأسرة كما أن هن يلعبن الدور الأبرز فيها، بينما يختص الرجال بالمهام في المجال الخاص حيث يقومون بتربية الأطفال و إعداد الطعام والاهتمام بشؤون المنزل بصفة عامة و يبقى دورهم ثانوي مقارنة مع دور النساء، وبالتالي خلصت الباحثة في هذه الدراسة أن ” القوالب النمطية الشائعة لسمات الأنوثة والذكورة ليست فطرية بل هي بالأساس نتاج التنشئة الاجتماعية والتكيف الثقافي مع أعراف وعوائد المجتمع .
بالانتقال إلى واحدة من الدراسات الأبرز التي تناولت موضوع الهوية الجندرية و تقسيم الأدوار بين الجنسين نسلط الضوء على دراسة الباحثة المغربية خلود السباعي في كتابها ” الجسد الأنثوي وهوية الجندر ” أن توزيع العمل بين الجنسين يسوده التقسيم الجندري في المنطقة المدروسة وهي منطقة متواجدة بشمال المغرب أطلق عليها اسم ” وادلاو ” الذي يوزع مهام النساء و يشتتها في الزمان والمكان، فلا تعرف بذلك أوقات البداية والنهاية، تدور في حلقة مفرغة بين أنشطة يطبعها الروتين والإجهاد الجسدي والنفسي، دون أن يحظين بالاعتراف أو بالتقييم الجيد، مثل تلك التي يزاولها الرجال، وتمنحهم القيمة والاعتبار، وتلقي الاعتراف والتقدير .
هناك نطرح بعض الأمثلة في هذا الصدد لتتوضح الرؤية أكثر فمثلا المرأة تعمل داخل المنزل وتدير كل شؤونه من غسل وطبخ و تربية أطفال… إضافة إلى هذا تقوم بكل الأعمال الأخرى خارج المنزل كجلب الحطب من الغابات والاهتمام بالمزروعات التي تعتبرفي الغالب هي مصدر الدخل الوحيد … بينما الرجل فقط يقوم بعملية البيع و الحصول على الأموال التي يصرفها هو فقط كما يشاء و غالبا ما يتم صرفها على نفسه كالجلوس في المقاهي ..
إنه كما تؤكد الباحثة خلود السباعي عمل مرهق بالنسبة للنساء ويستنزف طاقتهن دون أن يمنحن إمكانية تطوير ذواتهن أو تحسين مواقعهن بالقدر اليسير ، سواء في الأسرة أو المجتمع أو بالاعتراف بفاعليتهن وإنتاجيتهن .
لازالت إشكالية الهوية الجندرية وعلاقتها بتقسيم العمل بين الجنسين تطرح نفسها بقوة خاصة في البلدان المنتمية لما يطلق عليه بالعالم الثالث، فرغم القفزة النوعية التي قامت بها المرأة في جل القطاعات و تحررها من الأغلال التي تطبقها عليها تقاليد وأعراف المجتمع في تلك البلدان، إلا أنها لازالت تجاهد بقوة حتى تثبت نفسها وتمارس مختلف المهن والأعمال والوظائف وفقا لميولاتها ورغباتها الشخصية دون اكتراث لما هو مناسب لجسدها كأنثى أو ما هو غير مناسب لها حسب ثقافة المجتمع.
 
المراجع :
– فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب : الجنس كهندسة إجتماعية، المركز العربي الثقافي،الطبعة 4 ،2005 .
– سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، ترجمة ندى حداد، الأهلية للنشر والتوزيع.
– إيمي.إس.وارتون، علم اجتماع النوع مقدمة في النظرية والبحث، ترجمة هاني خميس أحمد عبده، الطبعة الأولى 2014، المركز القومي للترجمة.
– خلود السباعي، الجسد الأنثوي وهوية الجندر، جداول للنشر والترجمة والتوزيع.
 
حسناء المرابط – مدينة تارجيست
طالبة باحثة بسلك الماستر

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :