عبد العزيز لمين يكتب: جنون في المقهى

15 فبراير 2021

  مهيار شاب في عقده الثالث، إلا أن العين الناظرة إليه تستزيده عمرا، نظرا لظهره المقوّس بكثرة الانكباب على الكتب، مثقف، شعاره في الحياة القراءة وليس شيئا آخر غير القراءة،  تراه كل صباح يرتاد المقهى يراوح ،في الفترة التي يقضيها داخلها، بين مطالعة الكتب ونظم الأشعار وكتابة القصص، كنت ألتقيه كل مساء فيطلعني على أحداث غريبة من صناعة المقهى.

((ماذا جد في الكأس يا مهيار))؟    

بينما أنا يا صاحبي معتكف على قراءة كتاب “تاريخ الجنون” ل “ليونيد أندرييف” يقول مهيار؛ إذ هتف هاتف: ” أيها المجانين، من منكم يعرف قصة “المجنونة شيلو ل “جان جيرودو”؟؟.

شُدِهنا جميعا لوقع ذلك الصوت المتهدج المصحوب بسؤال غريب، تراه لمن؟ ولماذا أُلبِسَ قبّعة الجنون؟.

***********************************

 لجلساء المقهى حكايات متنوعة، فهذا حمّاد يلف سيجارة تلو سيجارة، وهو الذي ترك ابنه أنس بدون حذاء، حيث أراه ينتعل زمهرير البرد، وذاك خالد وحكايته مع القمار لا تنتهي، تخيل معي لو يحالفه الحظ اليوم، سأسعد بذلك أيما سعادة، ليس حبا فيه، وإنما إذا فاز سيريح ، على الأقل، فضاءَ المقهى من وابل السباب والشتم، وسيوفر لي، شخصيا، مَناخ القراءة.

إن حكايات هؤلاء الزبناء يا رفيقي لا تنتهي، فلبئس الحكايات هي.

بعد وقع الصوت سيعود زبناء المقهى إلى معانقة حكاياتهم البئيسة، غير آبهين لصوت الهاتف وسؤاله الغريب المحيّر، فهل حسبوا أنفسهم عقلاء أم أن جهلهم خاطب فيهم : لا تكترثوا، فالأمر لا يعنيكم؟.

أكاد أجزم لك يا صاحبي، أني الوحيد وقتذاك الذي كان خاضعا لسلطة الكتاب، إذ لا تسمع بيني وبين كتابي وفنجاني إلا همسا.

خامرتني أسئلة جمة بشأن “نازلة الصوت”، هل فطن الهاتف إلى كوني أقرأ كتاب “تاريخ الجنون”؟

وهل سؤاله ذاك موجه إلي أم لزبناء المقهى؟ وكيف لي أن أحدد منبع الصوت؟.

********************************************

طفقت أصول وأجول بنظري في أرض المقهى وسمائها لأحدد منبع الصوت، عما قليل سينتهي بي إلى امرأة ممشوقة القد، يبدو من صفحة وجهها أنها زرفت عن الستين، تفرست في عينيها الزرقاوين، رغم أن الشيب قد دبّ في عارضيها، توقدا وحدة.

ساقني الفضول إليها، اقترحت عليها أن أشاركها عالمها، رحبت باقتراحي، شكرت لها حسن صنيعها بي.

امرأة غريبة الأطوار، نظراتها خاطفة لا تستقر على شيء، على يمينها قطة سوداء قاتمة، تدلّلها وتتحدث إليها بكلام لم أدرِ فحواه.

 لها كتب منثورة على سطح طاولتها وكلها تدور في فلك الجنون: “دفاعا عن الجنون” ل: “ممدوح عدوان” الجنون في العصر الكلاسيكي” لِ: “ميشيل فوكو”، ” “الجنون في غياهب السجون” لِ: “تيري كوبز”.

إلى جانب هذه الكتب، توجد لوحة تشكيلية تظهر عين ماء، بقربها عجوز شمطاء تعزف على قيثارة وشبان قادمون من بعيد يمتطون جيادا، أغلب الظن أنهم قصدوا قضيضُهم العين لأنهم ظمآى. رجحت  أن اللوحة من صنع أناملها وأنها تحكي أحداثا غريبة.

((كيف بدا لك عالمي؟))

((عالم مجنون، لا قِبلَ لي به)). بعد هذا الجواب، قلت في نفسي: ألا تخشى أن يستحيل مشروب المرأة غضبا فتصبه عليك؟

تعمدت، على كل حال، أن أستفزها بهذا الجواب؛ لأنني انتهيت، بعد إبحاري في عينيها الزرقاوين، إلى كونها مولعة بأمواج الجنون؛ فهذه الأمواج (أمواج الجنون) ،بلا شك، سترخي بسدول جنونها عليّ، سالبة مني ثوب عقلي.

ردت قائلة:

((إذا كان عالمي مجنونا، فما الذي دفعك إلى قراءة “تاريخ الجنون”))؟

لذتُ بالصمت لبرهة ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة. تراني لماذا عجزت عن الرد؟. كنت في هذه اللحظة  أمعن النظر في فنجان المرأة، فخلت المشروب الذي بداخله شخصا أسود، والرغوة الفصيحة البادية على سطحه، طاقية بيضاء يضعها الشخص على رأسه، مخاطبا إياي:

((عجزك عن الرد ينبئني إلى أن في فيك شيء من حتى من الجنون، ولا تريد أن تبوح بذلك، فهل تخشى إن صرحت بإعجابك به، أن يتهمك الآدميون بالمجنون؟)).

لا أخفيكَ سرا أن هذا الخطاب هو الذي كان يدور في خلدي لحظتئذ؛ نعم لقد تغلغل “المشروب الشخص” إلى دواخلي محفزا إياي على الإجابة عن سُؤْلِ المرأة.

بعد الصمت الذي ران على شفتيَّ، ها أنا أستأنف الحديث مجيبا المرأة:

(( لا شك أنك استمعتِ إلى “المشروب” وهو يستنطقني بشأن عدم إعرابي عن ولعي بالجنون، نعم لقد فطن مشروبك يا سيدتي لأمري، إنني ،حقا، معجب بثقافة الجنون، وقد تحاشيت الإفصاح عن ذلك لئلا ينعتني حمّاد وخالد بالمجنون)).

صحيح أنك معجب بالجنون، لكنك تخشى أمرا آخر ينضاف إلى ما قلته، تخشى ،إن اغترفت من معين الجنون الذي لا ينضب، أن تصبح حياتك شبيهة بحياة المرأة؛ حيث الغرابةُ ترفرف في ثيابها المزركشة ونظراتها المخيفة، وحديثها الرّطْن مع قطتها.

فما عليك، يامهيار، إلا أن تنفض غبار الذعر عنك وتظهر للمرأة أنك تشاطرها رأيها وتقطع بصحته علّها

تكشف لك عن كنوز جنونها، وبذلك تستفيد وتفيد.

تحاملت على نفسي جاعلا إياها تستسيغ ،على مضض، شرب هذا المونولوج الذي أجج دواخلي، مجيبا المرأة:

(( لم أكن في الحقيقة على موعد مع الجنون يا سيدتي، وإنما الذي حصل، هو أنه قبيل مجيئي إلى المقهى نظرت في خزانتي فوقع بصري على كتاب “تاريخ الجنون”، فقلت: لا بأس أن تكون مادته وجبتي اليوم)).

(( أعظم بها من وجبة أيها الشاب الجميل؛ فلكم أنا سعيدة بأريج هذه اللحظة، حين وجدت ،أخيرا،     شخصا مثلك يمكنه أن يشاطرني عالمي؛ أقسم لك بأحلف الأيمان، أن أحلامي كادت تتبخر، لولا أن هب فضولك الصديق لنجدتها)).

وهي تجيبني تنظر تارة إلي وتارة إلى شباب لوحتها التشكيلية، وكأن لسان حالها يقول: هل تريد أن أطلعك على قصة هذه اللوحة؟

إنها لعمري لوحة غاية في الروعة؛ فحتى القطة لم تسلم من فتتتها، حيث أراها تحوم حولها وتهش عليها بذيلها.

((هل لِلوحتك هذه قصة يا سيدتي؟)).

((نعم)).

((إذا كان بالإمكان أن تطلعيني على سيولتها الحكائية)).

(( إن اللوحة، كما تعلم، هي من صنع أناملي، لوحة تختزل حكاية كنت من بين قواها الفاعلة )).

كنت أتردد كل صباح على منطقة جميلة بها عين ماء، ربُّها عفريت خريت، تعرفت إليه، خبّرني أنه في كل مرة يجيء شخص ليروي ظمأه يصعد إليه مختبرا إياه، فإن أجرى المترشح الاختبار ،بنجاح، سنح له صديقي العفريت بالشرب من عينه الزاخرة بالماء العذب، ومن ثم يأمره باستكمال مسيره، وإن لم يوفق يعمد صديقي إلى بتر رأسه ودسه في الماء، ويصنع ببقية أعضائه طعاما له.

ذات صبيحة وأنا بالقرب من العين أعزف على قيثارتي؛ إذ  بي أفاجأ بثلاثة شبان بصحبتهم شابتين جميلتين، ترجلوا من على جيادهم قاصدين العين، لاشك أن الظمأ هو الذي قادهم إليها.

ثلاثة شبان وشابتان؟. إنها لعمري معادلة غير منطقية أرقت كاهلي، حقيق أن يكون ثلاثة بثلاثة، أما ثلاثة باثنتين، فمسألة محيرة، اللهم إلا إذا كانوا إخوة.

((ما خطبكم؟)).

(( قصتنا طويلة يا امرأة)). قالها أحدهم، يبدو ،من خلال رشاقته وحيويته، أنه أصغر سنا من صديقيه شاب وسيم، يفتر عن ثغر باسم، على محياه وميض يشبه غرة الجواد الذي يمسك به، عيناه تنطقان حكمة.

((هلا أطلعتني على قصتكم أيها الفتى الجميل))؟

نحن رفاق ثلاثة، يجمعنا سقف واحد(سقف من جريد وقصب ، كثير التسبيح لارتطامه بعواء الريح، خشينا من كثرة تسبيحه هذا أن تصيبه رقة فيسجد ونسجد معه). كنا نعمل في النهار لجلب قوتنا، وعند الغبش نعود أدراجنا إلى البيت فنعد عشاءنا فرحين بأريج سمرنا، نقص الأحجيات والحكايات.

ذات ليلة، ونحن مجتمعون نحتسي شايا، قلت لصديقيّ أحمد وعبد الرحيم: ما أمنيتكما مستقبلا؟

أجاب عبد الرحيم: ((أتمنى صادقا ،وإن كان الأمر مستبعدا، أن أتزوج رتاج بنت التاجر حمان، فأنتشي لأنني تزوجت الجمال والمال)).

أردف أحمد: ((أتمنى الزواج من علية بنت التاجر حسن، حيث جمالُها يغنيني عن الوقوع في الفتن)).

وأنت يا هشام، ألا تنوي الزواج بسعاد بنت الإمام إدريس؟ يسألني أحمد هذا السؤال؛ لأنني حدثته بكوني تتلمذت لهذا الإمام الهُمام، فحدثَ يوما أن اصطحب معه البنت إلى الحلقة، فأعجبت بها؛ فتاة هيفاء عينها دعجاء، ثاقبة الذكاء…

(( إني أرى في شخصي يا أحمد، كونَه ليس أهلا للزواج)).

 صحيح أني كنت عازما على معانقة سقف الزوجية، لكن حين أنظر في علاقة الوالد بالمرأة، أجده رجلا مِطلاقا وهو أمر يكسر رغبتي في الزواج، هل تعلم بأن أمي هي المرأة السادسة له، وهي الأخرى مهددة بالطلاق. إذ كلما هاتفتها تقول لي: إن أباك يهددني ،من غير أن أصنع له قبحا، بالقول: ستصلك ورقتك وما يخوله القانون.

كان على أبي ،يا أحمد، ألا يهينَ النساء  وألا يغتصب عذريتَهن، فبفعله الشنيع هذا، ها أنت  تراني أضرب صفحا عن الالتحاق بصف الزواج.

أتمنى ، على كل حال، أن تتحقق أمنيتكما يا أحمد، قلت هذا الكلام لكي لا أفسد عليهما فرحتهما، أما دواخلي فتقول: لن تتحقق أمنية صديقيك إلا إذا التقى سهيل والسها أو باضَ الفأر؛ لأنني أعلم أن حمان وحسن من عبدة المال، فكيف يرضيان تلبيس ابنتيهما كساء الفقر.

أمر استبعدت تحقيقه، لكن شاء الله أن تحقق؛ نعم لقد تزوج عبد الرحيم برتاج وأحمد بعلية، أما عبد ربه

فها أنت تراه يعزف على سمفونية العزوبية.

لقد صنع التاجران، بحكم صحبتهما الأكيدة، عرسا واحدا دَعَوَا أهل البلدة إليه دعوة الجفلى، عرس لم أرَ مثله من قبل، أطباق متعددة الأشكال، رقص متعدد الألوان، غناء متعدد الألحان…

!وأنت تنظر في وجه صديقيّ تكاد تحلف أنهما لم ينتعلا قط  الفقر، سبحان مبدل الأحوال

بعد مرور أيام على حدث العرس، قرر صاحباي أن يخرجا في نزهة مع زوجتيهما فألحا علي الذهاب معهما، ففعلت.

 فها أنت ترينَ القدر قد ساقنا إلى حيث أنت كائنة.

. !ما أروع حكايتكم يا هشام

تفضلوا بالشرب، لكن نسيت أن أذكرك بأنكم ستخضعون، قبل شربكم من العين، لاختبار سيجريه لكم صديقي العفريت. هل تعلم يا هشام أن صديقي هذا قتل سبعة وتسعين شخصا بسبب إخفاقهم في الاختبار، إنه يمني النفس ليصل العدد إلى مئة، فها هو ذا قريب من تحقيق أمنيته إن أخفقتم أيها الثلاثة.

((نحن خمسة ولسنا ثلاثة، ألا ترين حضور رتاج وعلية بيننا؟)).

(( رأيتهما طبعا، وقد تعمدت عدم إحصائهما، لأنهما سوف لن تجريا الاختبار؛ الاختبار يجريه للذكران، أما  الإناث فهو رحيم بهن كما يقول، وأسطع دليل على ذلك هو كوني ماثلة أمامك؛ إذ لوكان يفعل بالنساء كما يفعل بالرجال لوجدتني، أغلب الظن، من المقتولات)).

((أتمنى لكم حظا موفقا يا هشام)).

لن يحالفهم ،طبعا، إلا الحظ العاثر، أنتِ على علم بأن صديقك يجري اختبارات صعبة لمترشحيه، وقلما ينجح شخص واحد من بين العشرات.

بعد إجراء الامتحان لم يوفق إلا هشام، وهذا أمر لم أستبعده؛ لكون الشاب هادئا متوقد الذكاء.

كان الرقم، كما ترى معي، خمسة فاستحال ثلاثة؛ أي خمسة ناقص رأسين مبتورين، يساوي ثلاثة (هشام، رتاج، علية).

لم يسعد هشام بهذا النجاح؛ وكيف له أن يسعد وهو الذي فقد صديقيه الغاليين.

استغربت كون الشابتين لم تحزنا على هلاك بَعليهما، هل تراهما تزوجتا تحت ضغط الأبوين؟ أم أنهما صدمتا لهول ما رأتا؟

بعد أن رأيت الحزن باديا على محيا هشام، لم أكثر عليه الكلام، وكل الذي فعلت هو أنني دعوت له وللشابتين بالتوفيق والسداد. فهل تراه سيغير نظرته المتشائمة حول الزواج، ويظفر بهاتين الغادتين الحسناوين أم أنه سيعيدهما لأبويهما ويذهب إلى حال سبيله؟

إلى هنا تنتهي يا مهيار قصة اللوحة، فهل أعجبتك؟

((نعم، إنها قصة أكثر من رائعة)).

هذا هو الجنون بشحمه ولحمه، تقول إنها زميلة عفريت، لا يعقل أن يكون هذا الأمر واقعيا، لا يعدو كون ما حكته لي مجرد أضغاث أحلام.

((إذا كان العفريت زميلا لك، فلماذا لم تصطحبيه معك إلى المقهى)).

أراها استشاطت غضبا لأنها قرأت في كلامي هذا، استخفافا بما قصّته عليّ.

((أراك لم تثق بما قصصته عليك، غدا سآخذك معي إلى العين لترى الحقائق بعينك)).

(( لا، لا داعي لذلك، أنت موضع ثقة)).

خفت أن يكون ما قالته صحيحا، فأذهب معها إلى العفريت فأخفق في الامتحان، وأكون بذلك وجبة دسمة له.

نظرت في وجه السماء، وقد تعمدت ذلك لأن رأسي انتفخ جنونا ولم أطق المزيد، فقلت لها لقد حان موعد الذهاب إلى البيت، غدا نلتقي.

مع السلامة، دون أن تنسى يا عزيزي قراءة مجنونة باسي” مجنونة لاكونكورد” مجنونة سالبيس.

هذا كل ما جد في الكأس يا إسبر، وإلى حكاية يوم غد.

عبد العزيز لمين – مدينة الدارالبيضاء

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :