يوسف أسكور يكتب: الثقافة كمدخل للتنمية

2 مايو 2019

لطالما كنت مهتما بالفكر و الأدب، قارئا للرواية، ميالاً لمقطوعات بيتهوفن و موزار و فيفالدي، منصتا وفيا لمقطوعات عاصي الرحباني، مستمتعا بصوت عبد الحليم حافظ، أم كلثوم و فيروز، لا يمكن أن أحدد بداية تعلقي بالثقافة و الفن، لكنني أعرف أن الفكر و الفن هما طريقا المجتمع السليم و المتزن، نحو التطور و البناء.

في اعتقادنا يشكل الإهتمام بالشأن الثقافي و العمل على جعله آلية جذب قوية هو الحل لتجاوز عديد الظواهر التي اضحت تقلق راحت الفرد المغربي عموما، على إعتبار أن المجال الثقافي بإختلاف  تمظهراته يساهم بشكل فعال في بناء شخصية الفرد المنفتح القادر على تقبل الإختلاف و تدبير الخلاف، المؤمن بضرورة و حتمية التطور، وذلك عبر صنوفه و أجناسه المتعددة و التي تحتوي التناقض و تشكل في قالب فني يدفع بالقارئ أو المشاهد الى عوالم جديدة  تساهم فس تحريك ملكة الخيال و التي تعتبر محرك البشرية نحو التقدم

الفعل الثقافي إذا و بدون أدنى شك هو بوابة المجتمع لتحقيق التنمية و بناء تصورات منفتحة تزيد بالمجتمع الى الأمام، و هذا هو مدار اشتغالنا كفاعلين مدنيين ننادي بضرورة إعادة الإعتبار للفعل الثقافي و إعطاءه الحظوة ليصير مجال جذب للشباب.

الموسيقى، الشعر، القصة، المسرح و غيرها مجالات كانت دائما و لازالت مدارس في توازن الفرد فكريا على إعتبار أنها لا تؤمن بالتقسيمات الإديولوجية و العقدية، حيث يجد هواتها أنفسهم أمام ابداعات مؤلفين و شعراء و موسيقيين دون السؤال حتى عن معتقداتهم، الثقافة إذا هي مفتاح العالم نحو السلام و نبذ العنف، و هي أيضا مفتاح للتنمية، كما سنرى.

يعتبر مفهوم الثقافة من المفاهيم السياقية المتعددة المعاني، وهو أمر يجعله عصيا على التوطين ضمن إطار تعريفي واحد، ولكن يمكن أن نقول  أن الثقافة تشمل المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية. وقد عرفها الكاتب و المفكر المصري أنور عبد الملك بأنها “كل ما يصور تجارب الإنسان شعرا، ونثرا، ولونا، ونغمة، وشكلا، وصورة. كل تعبير- أيا كان شكله، ونمطه، وهدفه، وأصالته، ونوعيته. كل ما من شأنه أن يخرج أحوال الناس من برجها الذاتي… إلى ساحة الإدراك…والتذوق والفاعلية”.

ظل يُنظر الى الثقافة  كونها  أداة للفرجة و وسيلة للترفيه، و أنها مجال يستدخل الموارد المالية و لا ينتجها، و ظل هذا التصور قائما في المخيال الشعبي للعامة كما الساسة، دونما أية إرادة لتجاوزه، و مع بروز مفهوم العولمة الى سطع النقاش، سعت الآلة الأمريكية مسنودة بترسانته إعلامية ضخمة إلى  استدخال ثقافات الشعوب الأخرى ضمن ثقافة واحدة كونية، أو بلغة فوكو جعلت نفسها الثابت البنيوي الذي يُلزم الجميع أن يقيس نفسه و تواجده بناءً عليه. هذه المحاولات جعلت العالم يعاود نظرته الى الثقافة و يصححها، اعتبارا الى كونه كان سيفقد العالم أهم ما فيه “التنوع”.

لحظة مفصلية دفعت الى تغيير زاوية النظر الى الثقافة، و بدل العمل على تحنيطها داخل المتاحف، انطلق العمل على جعلها وسيلة بناء، بناء الفرد أولا و بناء إقتصاد جديد برؤية تنموية تنطلق من الثقافة كمدخل.

نقف بداية عند المقصود بالتنمية، والمعروف أن لها تعريفات عديدة، ومن بينها التعريف الذى اصطلحت عليه هيئة الأمم المتحدة عام 1956، والذي ينص على أن “التنمية هي العملية التي بمقتضاها يتم توجيه الجهود لكل من الأهالي والحكومة لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المحلية لمساعدتها على الاندماج فى حياة الأمة والإسهام في تقدمها بأقصى ما يمكن”.

بناء على تعريف الأمم المتحدة للتنمية فإن هدف التنمية البشرية المستدامة ليس الرفع من قيمة الإنتاج، كما هو متعارف  بل هو تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم ليعيشوا حياة أطول وأفضل، وليتجنبوا الأمراض، و لتكون لهم القدرة على الوصل الى الرصيد العلمي و المعرفي الكوني.وهكذا، تصبح التنمية عملية بناء سليم للفرد و تطوير لقدراته  لا عملية تعظيم المنفعة أو الرفاهية المالية و الاقتصادية كما ينظر إليها اليوم. فالأساس في التنمية البشرية المستدامة ليس الرفاهية المادية فحسب، بل الرفع بالمستوى الثقافي للأفراد بما يتيح  لهم أن يعيشوا حياة تحوي فرصا عديدة و حبلى بالإختيارات الممكنة، ويمارسوا مواهبهم، ويرتقوا بقدراتهم. ويتضح هنا مثلا أن التعليم والثقافة يحققان فوائد معنوية واجتماعية، تتجاوز بكثير فوائدهما الإنتاجية، من احترام الذات إلى القدرة على  قبول الآخر و التواصل معه  وكذا الارتقاء بالذوق الاستهلاكي و الجمالي.

قدم المجلس الإقتصادي  و الإجتماعي و البيئي بالمغرب،  تقريرا معنونا ب “إقتصاديات  الثقافة”، و الذي يدعو الى اعتبار الثقافة كمحفز اقتصادي يساهم في موازنة الدولة بدل الحاجة البنيوية إليها، الإقتصاد الثقافي يعتبر اليوم رهانا استراتيجيا يهم البناء الثقافي للمجتمع في وحدته و تنوعه و في علاقته بالشباب و بأشكال حضورها في أماكن العيش و الذي أكد على أن الثقافة ” ليست وسيلة لتحقيق النمو، فقط، و إنما هي عامل في التنمية ومحرك لها، ومن هذه الزاوية فإن مختلف عمليات التشخيص التي أنجزت في المغرب تتفق على معاينات أساسية منها… أننا نملك رأسمالا ثقافيا غير مستثمر و غير مدمج في مؤسسات التنشئة، كالمدرسة و الإعلام، و أماكن العيش”

الوقوف عند رأي المجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي، مرده تبيان أن تجاوز الثقافة ضمن مخططات التنمية التي تسطر على المستوى الوطني و غياب رؤية استراتيجية ثقافية واضحة، و سياسة عمومية عادلة مجاليا، هو –في اعتقلدنا- ما حكم على النموذج التنموي المغربي بالفشل، ذلك أنه لا يمكن بناء أي تنمية دونما تمكين للأفراد المشكلين للمجتمع، و دونما ادماج للثقافة بجميع مكوناتها من شعر و نثر و موسيقى و مسرح و تشكيل و غيرها ضمن بعد واحد يتغيا بناء فرد مؤمن بضرورة العمل على الرقي بالمجتمع، منتج للمعنى ، مشارك في البناء القاعدي للأجيال المقبلة و رافض للإستكانة الى المعطى الجاهز الذي قد يكون من تشظيات التحرك الأمريكي او الغربي عموما لمسح الخصوصية الإبداعية المحلية.

المصادر:

المجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي، إقتصاديات الثقافة، ص.13.

 

الآراء الواردة في هذه المشاركة  تعبر عن رأي صاحبها فقط.

يوسف أسكور  – كاتب مغربي

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “يوسف أسكور يكتب: الثقافة كمدخل للتنمية

  1. بلال المنصوري مايو 4, 2019

    الله يوفقك كاتبنا الرائع….

: / :