مونية الزبيدي تكتب: صديقي الأعمى

27 نوفمبر 2021
 
أعمى يبصر ما خفي وراء السطور، خانه بصره منذ نعومة أظافره، لم يسعه الوقت حتى يرسم ملامح أبويه في لوحة فنية من لوحاته المعدودة أصابع اليد والمعلقة على جدران ذاته، جدران تآكلت مع مرور الدهر أو ربما لا، لا أدري ففي أول لقاء لونت عالمه باللون الأسود القاتم، لا أدري لم. هل طغى السواد على عالمي؟ أم هي غشاوة أحاطت عيناي فشوشت رؤيتي للعالم ؟ عالمي مزيج غير متجانس، لونته الأحمروالرمادي الداكنين فمزجت اللونين في لوحة غامضة عجز النقاد عن فهمها ، عجزو إلا شخص واحد، شخص تعرفونه جيدا، إنه صديقي الأعمى والذي كنت أجلس بجانبه كل مساء بعد يوم شاق إما لتجديد الطاقة أو لشغفي بمعرفة أشخاص غرباء، فرب غريب صادق و بئس صديق تغرب بعيدا عن الفؤاد. أثار فضولي ، جذبتني كمياؤه نحوه لسبب لا أفقهه ولن أفعل.
صمت رهيب ساد منذ أول لقاء، غريب للعامة المارين هنا وهناك, المختلسي لنظرات توحي إما للاستغراب أو الشفقة أو الإستهزاء. فمنهم بل أغلبهم من يخالنا ننتمي لفصيلة المجانين، نظرهم قصير المدى، نظر يعجز عن تخطي ما تراه العين، نظر يجهل السر الكامن لحكمة لغة الصمت و التي يفتقدها غالبية بنو البشر.
لن أنسى ذلك اليوم، يوم خميس أسود تبدى لي فيه مصيري المحتوم بعد انتظار و ترقب طويلين، يوم أدركت فيه حقيقة التحاقي مجددا بأصدقائي القدامى، سعيد و أحمد و عاصم، آه كم اشتقت إليهم ، بكيت أطلالهم من حين لآخر، لطالما أفترشنا الأرض سويا وتأملنا نجوم السماء، لطالما تقاسمنا كسرة خبز صلبة أكل عليها الدهر ثم شرب، لم نتقاسم تلك الكسرة فحسب، بل تقاسمنا الحلو و المر، الموجب و السالب، فمنذ أن فرقتنا الحياة أصبحت وحيدا أحاكي لغة الصمت الفصيحة. أصبحت جثة لفظها التراب لأجل مسمى بعد أن ابتلعهم واحدا تلو الآخر.
جلست كعادتي على كرسي الحديقة المعهود شارد الذهن أناشد السماء، أسئلة كثيرة تزاحمت داخل مخيخي المنهك، أبتلع ريقي و أستوعب خبرا اخترق طبلة أذني بعد دقائق معدودة قطعت عذاب انتظار طال، هل أرقص فرحا لأمنية ستتحقق؟ أم اطلق العنان لسيل غزير من الدموع؟ أه نسيت الرجال لا يبكون، ولم لا يبكون؟ أليسو بشر؟ لا أدري شكلت تلك الأسئلة طنينا كاد يمزقني إلى أشلاء، آه كم رهيب الصمت في هذه اللحظة بالذات ، صمت يحاكي عذاب ألم لا يطاق، صمت كسر حاجزه صديقي الأعمى. ها هو ذا ينادي العابرين “كلكم هائمون في غياهب هذا العالم الغائم، ربما هو غائم بسبب الغشاء الذي يحيط بعيونكم، غشاء كبر فكبر بسبب ضعفكم، كبر ليشكل سجنا وهميا أوقعتم أنفسكم فيه بمحض إرادتكم، عالمنا هذا ليس بغائم لأن شمسه تسطع في عقول ذوي الألباب. صحيح أن العالم قد لون بألوان مرئية شفافة لكن بداخله توجد كائنات تستطيع أن تمزج ألوان العالم المرئية مع الأخرى اللامرئية فترسم لوحات يعجز النقاد عن تفسيرها” كلام طويل لم تستطع أذناي أن تلتقطه كله نظرا لضجيج الأفكار المتصارعة داخل عقل أنهكه التفكير. كسر صديقي الأعمى حاجز الصمت بيننا لكن لم أجاريه، فقد ألجمني الواقع وقيد حريتي فتركني إنسانا أبكما لا يقوى على التحدث، انسحبت من العالم المعيش لأخوض غمار مونولوج داخلي.
“صديقك هذا ليس بأعمى فالعمى هو عمى العقول، صديقك الأعمى يبصر العالم بعقله لا ببصره، ومن يرى العالم بعينيه يرى السطح لا العمق، يرى المظاهر و المظاهر خداعة ؛ ففي حر الصيف نخال السراب ماءا على قارعة الطريق، وإنه لعالم صغير هذا الذي تبصره أعيننا، وإنه لأعمق بكثير إن أبصرناه بعقولنا، لوهلة ظننت أن عالم صديقي الأعمى سوداوي ملبد بالغيوم الداكنة، و مع مرور الوقت أدركت جسامة خطئي وأسقطت ما ينزف عالمي من دماء على عالمه كأنني مخترق عقول، عالمه مزهر مشرقة شمسه زرقاء سماءه متفتحة أزهاره ومن يدري لعله حدائق خضراء تتناثر ألوان الحياة عليها.
رجعت مجددا إلى الواقع المعيش على طرقات عكاز صديقي الأعمى وهو يخطو خطواته المتثاقلة صوب باب الحديقة فلاحقته بتأن علني أخرج من قوقعتي، علني أتعلم عبرا جديدة، وبعد لحظات معدودة أخدت الرؤية في التلاشي وفجأة حلت السكينة…ربما.
 
مونية الزبيدي – مدينة زاكورة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :