مصطفى أنگوط يكتب: التصوف السني

4 يوليو 2022

 

« عن عائشة رضي الله عنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حرا ، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، ويتزود ذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاء الحق و هو في غار حراء …إلخ الحديث » {١}

تــقـديــــم :

     لطالما تساءلت عن الداعي الذي جعل والدي يحثنا حين التفافنا حول طاولة العشاء بالبسملة وبكون البركة تنزل على الطعام فور نطق هذه العبارة ؛ أعني أنه كان يلح علينا أن نقول بسم الله قبل البدء حتى ولو كانت كمية الطعام قليلة مقارنة بعددنا الكبير ، فكان يقول أنه بالبسملة تنزل البركة على الطعام ، و لطالما تساءلت عن سبب تفضيله لارتداء تلك الملابس الرثة مع العلم أن خزانته ممتلئة بالملابس الجميلة ، لقد كان يتقشف و يتزهد في حياته ، لكن ما الغاية من كل ذلك ؟  و ما الذي يعني به حين يعاند نفسه؟ . بناء على ما سبق يكون موضوعنا هو هذا الزهد و هذا التصوف و اعتماده كأسلوب حياة ، إلا أن الموضوع بالذات يتحدث عن التصوف في شقه السني ؛ أي ما له علاقة بالكتاب و السنة .

فما أصل التصوف ؟

وما التصوف السني؟

     إن أول إشكال يواجهنا قبل سبر أغوار هذا اللون من التصوف هو المفهوم بحد ذاته ، إذ يستدعي أولا الوقوف عند مصدره اللغوي و الاشتقاقي ثم توضيح المعاني و الدلالات التي يحملها ، مثلما يستحسن القول باختلاف الآراء و الكتاب حول مصدره اللغوي ؛ فنجد أن القشيري يقول: الصفاء محمود بكل لسان، وضده: الكدورة؛ وهي مذمومة. أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا عبد الله بن يحيى الطلحي قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن نوفل قال: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: “ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم. {٢} ، كذلك قال حول التصوف : الظاهر في هذا الاسم أنه لقب إذ لا يشهد له من جهة العربية اشتقاق أو قياس .” {٣} و قيل هو مشتق من الصفاء و إلى هذا يشير أبو الفتح البستي :       

تنـازَعَ النـــّاسُ فــي الصـوفيِّ واختــلَفــوا                   قـــدما وظــنوه مشتقـــا مــن الصّـــُوفِ

ولســـتُ أمـــنحُ هـــذا الاســـــمَ غيـرَ فتـىً                 صـــافي فصوفِيَ حتَّـى لقــب الـــصُّوفي

و بعضهم يعيدها  أهل الصفة {٤} و البعض الآخر يرجعها إلى الصفاء أي النقاء ، وغيرهم إلى الصف الأول ؛ بمعنى الذين يستبقون إلى الصف الأول في الصلاة و أفضليته عن باقي الصفوف ، كذلك هناك من رأى أن مصدرها هو الصوف أي الذي يرتدي ثوب الصوف الخشن … ثم كذلك هناك من ردها إلى الكلمة اليونانية Tehosophie {٥} ، و قد ورد لفظ الصوفيلقبا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي ، إذ نعت به جابر بن حيان {٦} من أهل الكوفة ، له في الزهد مذهب خاص ، و أبو هاشم الكوفي المتصوف المشهور، أما صيغة الجمع «الصوفية» التي ظهرت عام 199هـ ( 814 م ) في خبر فتنة قامت بالإسكندرية فكانت تدل على -قرابة ذلك العهد فيما يراه المحاسبي و الجاحظ- على مذهب من مذاهب التصوف يكاد يكون شعبيا نشأ في الكوفة {٧} .

ولكن الدراسة  بينت أن هذه الوجوه كلها بعيدة ، و الأصوب أن يقال أن اشتقاق كلمة صوفي هو من “الصوف” ، و كان لبس الصوف شعارا للعباد و الزهاد لأول نشأة للزهد ، وكثير من الصوفية أنفسهم يذهبون في هذا الرأي الأخير ، و منهم السراج الطوسي في كتابه «اللمع» و يؤيده ابن خلدون و آخرون .

و التصوفبصفة مبدئية- و بوجه عام هو فلسفة حياة و طريقة معينة في السلوك يتخذهما الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي ،و عرفانه بالحقيقة و سعادته الروحية ، و يقول الإمام أبي القاسم الجنيد : “التصوف تصفية القلوب عن مواقفه البرية و مفارقة الأخلاق الطبيعية ، و إخماد صفات البشرية و مجانبة الدواعي النفسية ، و منازلة الصفات الروحانية و التعلق بالعلوم الحقيقية ، واستعمال ما هو أولى على الأبدية …” {٨}، ثم كذلك قوله معرفا التصوف : « ما أخذنا التصوف عن القيل و القال ، ولكن عن الجوع و ترك الدنيا و قطع المألوفات و المستحسنات ، و يقصد بذلك المجاهدة و المكافحة اللتين يعقبهما الوصول إلى الذوق » {٩}

و بالتالي فإن كلمة تصوف و إن كانت من الكلمات الشائعة إلا أنها في نفس الوقت تعد من الكلمات الغامضة التي تتعدد مفهوماتها و تتباين أحيانا و السبب في ذلك أن التصوف حظ مشترك بين ديانات و فلسفات و حضارات متباينة في عصور مختلفة ، و من الطبيعي أن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد و أفكار ، و يخضع تعبيره عنها أيضا لما يسود حضارة عصره من اضمحلال أو ازدهار . أما المفهوم الثاني الذي تمثله السنة   ؛ ففي اللغة نعني الطريقة المسلوكة و المثال المتبع الذي يقتدى به و السيرة المتبعة .و قد عرفها ابن جرير الطبري قائلا «المثال المتبع و الإمام المؤتم به » {١٠} ، كما قال لبيد بن ربيعة العامري :

مــــن مـــعشر تسنّـــــت لهــــم آبـاؤهــــم   ***   و لكــــــل قـــــــوم سنـــــــــة و إمامــــــها {١١}

و السنة أيضا بمعنى السيرة حسنة كانت أو قبيحة ، و قد تكرر في الحديث ذكر كلمة “السنة” و الأصل فيها كما ذكرنا هو الطريقة و السيرة ، و قد قال ابن منظور « و إذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي، و نهى عنه و ندب إليه قولا و فعلا مما لا ينطق به الكتاب و السنة أي : القرآن و الحديث» {١٢}. كذلك ينبغي الإشارة إلى أن ضد السنة هي البدعة  و قد عرفت في الاصطلاح الشرعي بأنها فعلُ ما لم يُعهَد في عصر رسول الله {١٣} .

يمكن القول إذن أن التصوف السني هو التصوف الأقرب إلى الكتاب و السنة و يستمد مبادئه منها ، و المتصوفة السنيين هم الذين يمثلون التيار الذي اشتهر بالصدق و الزهد بالدنيا و زينتها ، فكان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة الإسلامية و دعوتهم الالتزام بما جاء في السنة و نهج السلف ، فنجد مثلا أن ابن خلدون عرفه بقوله : « علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة ، و أصله عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين ، و من بعدهم ، طريق الحق و الهداية ، و أصلها العكوف على العبادة ، و الانقطاع إلى الله تعالى ، و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها ، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه ، و الانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة ، وكان ذلك عاما في الصحابة و السلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة » {١٤}، ذلك أن صوفية الإسلام قد أدركوا أهمية الأساس الأخلاقي للدين ، فانصب اهتمامهم حوله ، و اعتبروا أن كل علم لا يقترن بالخشية من الله و المعرفة به فلا جدوى يرجى منه على اعتبار أن تحصيل العلم من الكتب حاله سهل ، بينما تحصيل الأخلاق فهو عسير ؛ لأنها تتأتى بمشقة و بصراع الإنسان ضد نفسه ، و لما بحثوا في الأخلاق باعتباره جوهر الدين ، أنشأوا بذلك علما مستقلا مكملا لعلم الكلام (الباحث في العقائد) و علم الفقه (الباحث في الأحكام الفروعية العملية) ، فاعتبر عند المسلمين من العلوم الشرعية . و بالتالي يتبين أن التصوف في الإسلام ، كعلم ديني ، يختص بجانب الأخلاق و السلوك ، فهو روح الإسلام .

-اتجاهين متميزين للتصوف :  

قد كان هنالك اتجاهين مختلفين للتصوف عند صوفية القرنين الثالث و الرابع ، أحدهما سني ؛ يتقيد أصحابه فيه بالكتاب و السنة ، و يربطون أحواله و مقاماته بهما ، و الآخر شبه فلسفي ؛ ينزع فيه أصحابه إلى الشطحيات ، و ينطلقون من حال الفناء إلى الإعلان عن الاتحاد أو الحلول . و قد استمر الاتجاه الأول خلال القرن الخامس الهجري بوضوح ، على حين اختفى الاتجاه الثاني أثناءه ، و إن كان قد عاود الظهور في صورة أخرى عند أفراد من متفلسفة الصوفية في القرن السادس و من بعده ،و اختفاء الاتجاه الثاني في القرن الخامس راجع إلى غلبة مذهب أهل السنة و الجماعة الكلامي – الذي انتصر له أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة ٣٢٤هـ على ما سواه من المذاهب ، ومحاربته الغلو الذي ظهر في التصوف على يد كل من البسطامي و الحلاج ، و أصحاب الشطح عموماً {١٥}.

لذلك اتخذ التصوف في القرن الخامس اتجاها إصلاحياً جلياً ، و يعتبر القشيري و الهروي من أبرز صوفية هذا القرن الذي نحوا بالتصوف هذا المنحى السني ، و سينهج نهجهما في الإصلاح الإمام الغزالي في النصف الثاني من ذلك القرن ، و يكتب بذلك الانتصار للتصوف السني ، فينتشر على نطاق واسع جدا في العالم الإسلامي .

-الزهد و دوره في نشأة التصوف :

دائما ما ينبغي لنا كباحثين قبل الاسترسال في نشأة التصوف الإشارة إلى دور الزهد في نشأة هذا الأخير ، إذ أن التصوف في بدايته كان يتسم أساسا بالزهد ، و ترجع نشأته في الإسلام إلى حركة الزهد ، و ذلك قبل أن تطغى عليه اتجاهات جديدة تتجلى في الدراسات النظرية و الكلام في وحدة الوجود و غير ذلك من عناصر  . بداية فإن الزُّهد: ضد الرغبة والحرص على الدنيا، والزهادة في الأَشياء كلها: ضد الرغبة {١٦} ، و للإسلام مفهوم خاص للزهد فهو ليس رهبانية أو انقطاعا عن الدنيا ، و إنما هو معنى يتحقق به الإنسان ؛ أي أنه يجعله ذا نظرة خاصة للحياة الدنيا ، فهو يشتغل و يعمل لكن في نفس الوقت لا يسمح للدنيا بأن تغريه و بالتالي تصرفه عن طاعة ربه . و لذلك فالزهد في الإسلام ليس مقترنا البتة بالفقر ، بل يتفق كذلك مع الغني و مثال ذلك نجد ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان من كبار الأغنياء ، و لكنه كان زاهداً فيما كان يملك ، و يروى عن زهده أنه قد جهز جيش العسرة و اشترى بئر روما من يهودي كان يمنع المسلمين  {١٧} حتى قال عنه رسول الله ﷺ :« ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا » {١٨} ، فكان عثمان على هذا الأساس قدوة لأهل التصوف .

و قد قيل لأحد الزهاد الأوائل ، وهو أدهم إبراهيم بن أدهم أن اللحم قد غلا ، فقال : أرخصوه ؛ أي لا تشتروه فأنشد قائلا :

إذا غــــلا علـــــــي شـــــيء تركتــــــه *** فيكـــــون أرخــــص ما يكـــون إذا غـــــلا {١٩}

و هذا الزهد مستوحى من أدب القرآن ، و سنة النبي (ص) و الصحابة رضوان الله عليهم ، فنجد أن الزهد عند الرسول ﷺ لم يكن ليعني الابتعاد عن الدنيا بشكل مطلق ، بل كان يعني التوسط و الاعتدال في الأخذ بأسبابها و ملذاتها ، و هذا مشار إليه في قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» {٢٠} ، و كان صحابة الرسول إثر التزهد أقوياء في نفوسهم ، فلم يفتتنوا بمال و لا سعوا نحو جاه و لم يصيروا للشهوات عبادا كذلك . يتبدى لنا إذن أن الزهد في الإسلام هو منهج الحياة أساسه التخفيف من ملذات الحياة و الانصراف عنها ، فيحقق الإنسان حريته بموجب ارتقائه عن الشهوات و الأهواء بمحض إرادته ، مع القدرة في نفس الوقت على إشباع هذه الشهوات و السير وراء متع الدنيا ، ولكن يمنعه من ذلك إيمانه القوي بالله و الخوف من عقابه في الآخرة . يعتبر الزهد كذلك  ثالث المقامات عند متصوفة الإسلام .

-الأحوال و المقامات الصوفية :

الأحوال والمقامات هي عبارة عن معارج و منازل تهدف إلى غاية أخلاقية كما تصورها الصوفية في الجمع بين الاعتقاد و التطبيق ، فهي عبارة عن مراتب يتدرج فيها السالك ليصل إلى حال الفناء ، كما تصور لنا أرقى الجوانب الأخلاقية الرفيعة كما هي موجودة عند الصوفية ، فإن سلسلة النظام الصوفي إنما هي في المقام الأول سلسلة أخلاقية ، و الفرق بين المقام و الحال هو أن المقام يكتسب عن طريق المجاهدات و العبادات ، بينما الحال فيعتبر من فيض الله على السالك ، و قد فصل في ذلك الجرجاني قائلا :” الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع و لا اجتلاب ، و لا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة ، و يزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أو لا ، فإذا دام و صار مُلكاً يسمى مقاما ، فالأحوال مواهب ، و المقامات مكاسب و الأحوال تأتي من عين الجود ، و المقامات تحصيل ببذل المجهود ”  {٢١} . و سنحاول أن نوجز هذه المقامات فيما يلي لضيق المجال و غزارة الموضوع دون إغفال الجوهر منه :

مقام التوبة : و هي أول المقامات ، و أول خطى الطريق و بداية السلوك و العمل ، ويهتم الصوفية بهذا المقام لأنه مفتاح الطريق للسالكين ، فمن لم يكن منهم منيبا إلى الله لا يصح أن يكون سالكا للطريق ، و في هذا السياق نستحضر قول النبي صلوات الله عليه :” التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب ، ثم تلا : إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين ، قيل : يا رسول الله ، و ما علامة التوبة ؟ قال ” الندامة{٢٢} فالتوبة أول منزل من منازل السالكين و أول مقام من مقامات الطالبين. كما يبدو أن الصوفية المعتدلين قد قدموا صورة راقية للتوبة  ، وهذه الصورة لا تخرج عن حدود الشرع و تدل في المقام الأول على يقظة الذهن وحق الإيمان .

مقام الورع : و في هذا المقام تجتمع الخصال الطيبة و خلاصة الفهم و التدبر ، فالوَرِع هو حمل النفس على الأوثق من الأمور و تجنب الشبهات في كل الأحوال ، وفي هذا السياق يذكر القشيريقال الأستاذ الإمام رضي الله عنه : أما الورع ، فإنه :ترك الشبهات كذلك قال إبراهيم بن أدهم : الورع ترك كل شبهة  و ترك ما لايعنيك وهو ترك الفضلات » {٢٣}، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه : « كن ورعاً تكن أعبد الناس » {٢٤}. و أشرف ما في هذا المقام أن صاحبه يعرف بشكل يقيني السبيل إلى الله فيسلكه في صدق و عزيمة بعد اقتناع و تسليم ، و يكفيه من ذلك أنه يتجنب الوقوع في الشبهات ، و ينطق إلى انشغال القلب بذكر الله ، فما دُونه يعد في عرف الصوفية من قلة الورع.

✓ مقام الزهد : دائما ما يعزز الصوفية أقوالهم في الزهد بالآية الكريمة : {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} {٢٥}  ، و الصوفية معرفون بالزهد و منسوبون إليه في نشأة أحوالهم و مراتبهم وهو أساس الطاعة عندهم و أصل القربة إلى الله تعالى ، مثلما لا يقدر على الزهد و مصاحبة الزاهدين إلا من صحت عزيمته على سلوك الطريق ، ففي الزهد تزول معاني الطمع و الجشع و تجتمع فيه معاني السخاء و الكرم ، و قد قال صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الرجل قد أوتي زهداً في الدنيا ، ومنطقا، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة  » {٢٦} .  لكن ينبغي الإشارة إلى أن مقالاتهم لا تدعو إلى العزوف عن الدنيا بقدر ما تهدف إلى تنقية القلب و تصفية النفوس من شوائب الكدر و رعونة الهوى …

✓ مقام الفقر: هذا المقام عند الصوفية مقام شريف و عظيم و هو رداء الشرف ،و لباس المرسلين و جلباب الصالحين ، وتاج المتقين ، بل يمكن القول أن الصوفية هم الفقراء ، والواقع أنه ليس من معان الفقر أن يركن الفقير إلى زاوية الكسل والخمول ، و يتخذ من فقره مبررا للارتزاق و الصعلكة ، فينتظر من يجود عليه بفتات اللقم و بقايا الطعام . و لكن معان الفقر عند الصوفية المعتدلين هي التي توجب التسليم بقضاء الله وقدره ، فلا مفر من فقر الفقير إلا بالقبول لما كتبه الله عليه ، وهذا لا يمنع حقه في العمل و الاجتهاد . بالتالي فالفقر هو الرمز الذي عرف به الصوفية ولما كان الفقر دليلاً على نقاء الفقراء أجاز تسميتهم بـ”الفقراء“.

✓ مقام الصبر: سئل الجنيد عن الصبر فقال : “هو تجرع المرارة من غير تعبيس “{٢٧} ، و قال يحيى بن معاذ : “صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين ، واعجبا، كيف يصبرون؟ وأنشدوا:

الصبــر يحمـــد فـــي المــواطـــن كلهــــا *** إلا عليــــــــك فإنــــــه لا يحمــــــد {٢٨}

والصبر قاعدة مهمة من قواعد العبودية ، و كلما عرك الإنسان نفسه بالصبر وجدها لينة ؛ يجري فيها الصبر مجرى الأنفاس ، و قد اعتبر الصوفية أن مصير الإنسان يكمن في مجاهداته للأهواء بصبر وجلة و قوة و على قدر عزيمته يكون مصيره من الصلاح و الإحسان.

✓ مقام التوكل: تقول السنة أن العمل واجب من واجبات الدين ، و فرض من فرائضه الظاهرة ، لا ينفيه توكل و لا يلغيه اعتقاد سليم ، والتوكل لا ينافي الكسب . و قد سئل يحيى بن معاذ : متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال : إذا رضي على الله تعالى وكيلاً {٢٩} . و قال تعالى :« وعلى اللـه فليتوكـل المؤمنـون »{٣٠}، ما يعني أن الله تعالى قد أمر بالتوكل ، وجعله مقرونا بالإيمان .

✓ مقام الرضى: يقول الله تعالى : « رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم» {٣١}. من الواضح أن المؤمن في مقام الرضا يستقبل قضاء الله و إرادته بعد أن مر بسائر المقامات السابقة ، فلا بد فيما يلي أن ينتهي إلى مقام يكون فيه مسلما مفوضا محققا من التفويض و التسليم ، و لا عزائم في ذلك ، فليس فوق مقام الرضا منزلة و لا فوق درجته مقام ، حيث تذوب الإرادة البشرية في الإرادة الإلهية .

_ الإحـالات و الهوامـش:

  1. صحيح البخاري ، الحديث رقم : ٣.
  2. القشيري : “الرسالة القشيرية “، باب التصوف ، ص ٢٣٨.
  3. نفس المرجع السابق ، ص ٢٣٩.
  4. الصفة في اللغة تعني البهو الواسع عالي السقف ، و يدل أهل الصفة على من سكن الصفة و أقام فيه ، وهي ظُلَّة في مؤخرة المسجد النبوي و إليها يأوي المساكين ، و قد نسبوا إليها فأصبح يطلق عليهم لقب أهل الصفة.
  5. Theosophie  : هي كلمة مركبة ذات أصل يوناني : Theos  بمعنى إله أو إلهي ، ثم Sophia :    ومعناها  الحكمة .
  6. وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال: «إمام المدونين جابر بن حيّان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز».
  7. نقلا عن ماسينيون و مصطفى عبد الرزاق : “التصوف”، دار الكتاب اللبناني -مكتبة المدرسة ،ص ٢٦ ، ٢٧ .
  8. أبو بكر محمد الكلابادي : ” كتاب التعرف لمذاهب أهل التصوف ” القاهرة ، ص .١١
  9. د. محمد لطفي جمعة : ” تاريخ فلاسفة الإسلام ” ،بيت الياسمين للنشر والتوزيع ،الطبعة الأولى لبيت الياسمين ٢٠٢٠ ، ص ٣٢١.
  10.  نقلا عن : عبد الغني محمد عبد الخالق : “حجية السنة ” ، ط ٢ ، ص ٤٧.
  11. يحيى بن علي بن محمد الشيباني : ” شرح القصائد الشعرية ” ، ص ١٧٣ .
  12. بن منظور : ” لسان العرب ” ، دار الصادر ، ص ٢٨٠ ، ٢٨١.
  13. العز بن عبد السلام : ” قواعد الأحكام في مصالح الأنام” ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة ، ١٩٩١م ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.
  14. مقدمة ابن خلدون ، القاهرة ، الفصل السابع عشر : في علم التصوف ، ص ٥٢٠
  15. راجع كتاب :”مدخل إلى التصوف الإسلامي ” ، د. أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، ص ١٤٥.
  16. ابن منظور : ” لسان العرب” ،ج ٣، ص ١٩٧.
  17. د. أبو الوافا الغنيمي التفتازاني : ” مدخل إلى التصوف الاسلامي” ، القاهرة ، ط ١، ص ٥٢.
  18. نفس المرجع السابق ،ص ٥٢.
  19.  القشيري : “الرسالة القشيرية” ، ص ١٣.
  20. سورة البقرة الآية ١٤٣.
  21. الجرجاني :” معجم التعريفات” ، دار الفضيلة ، ص ٧٢.
  22. القشيري :”الرسالة القشيرية”، ٩٥.
  23. نفس المرجع السابق ، ص ١٠٨.
  24.  نفس المرجع السابق ، ص ١٠٨
  25. سورة الحديد ، الآية ٢٣.
  26. القشيري : “الرسالة القشيرية ” ، ص ١١٢.
  27. نفس المرجع السابق ، ص ١٦٥.
  28. نفس المرجع السابق ، ص ١٦٦.
  29. نفس المرجع السابق ، ص ١٥٠.
  30. سورة إبراهيم ، الآية ٢٢.
  31. سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

 

_لائحـة المصـادر و المـراجع :

_ماسينون و مصطفى عبد الرزاق : “التصوف” ، دار الكتاب اللبناني – مكتبة المدرسة، بيروت ،  الطبعة الأولى ، ١٩٨٣ .

_د. أبو الوفا الغنيمي التفتازاني : ” مدخل إلى التصوف الإسلامي” ، دار الثقافة و التوزيع ، الطبعة الثالثة.

_ د. مجدي محمد إبراهيم : ” التصوف السني ” ، مكتبة دار الثقافة ، القاهرة ، الطبعة الأولى ١٤٢٢ هـ – ٢٠٠٢ م .

مصطفى أنگوط  – مدينة أرفود

طالب بالمدرسة العليا للأساتذة ، السنة الثانية من سلك الإجازة في التربية ،التعليم الثانوي التأهيلي ، الفلسفة /الرباط

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :