كريم الحدادي يكتب: الكابوس

24 أغسطس 2019

           لم أعهد العطلة على هذا النحو. أصبحت  القرية فارغة، كئيبة، لا يواسيني فيها سوى قهوة الصباح و الكتابة و روايات ”ألبير كامو” و ” فرانز كافكا”. تزوجت الجبال من جديد، أتنقل من مكان إلى آخر و أجول بين الصخور بمذكرتي.

          كنت ألتقي من حين لأخر بإحدى صديقاتي بالثانوية، نتبادل أطراف الحديث في لهف و شوق لأيام الفصل. ذات يوم و أنا في طريقي إلى منزلها، التقيت ب ”كورين”. لم أتعرف عليها بسهولة و كأنني لم أعرفها من قبل. عانقتني و بدأت في البكاء. سألتها باستغراب:

-ما بك؟

-لقد تركتني..

– ماذا؟ كيف؟ متى؟

-لن تتذكر…فقد كنت أحبك بجنون و…

– و ماذا؟

– لقد خنتني…

– و لماذا لم أتذكر؟

– لقد…

فهمت قصدها و انصرفت.

        كان كل شيء يسير في المنحى الصحيح، فإذا بهاتفي يرن و أنا نائم. ظننته المنبه. إلا أنه كان أبي، لم أرد على المكالمة و خلدت إلى النوم. رن الهاتف من جديد، فإذا به نفس الشخص، لم أعره اهتماما. لم أستطع الرد ليس لأنني لا أريد التحدث معه، لكن لأنه سيكتشف أنني نائم و هو أمر سيثير غضبه. لكن، أن يرن الهاتف للمرة الثالثة و المتصل أبي فهذا يدعو إلى القلق. أجبت عن المكالمة، فتحت عيناي ببطيء شديد بعدها ب… لا أعلم بالضبط كم مر من الوقت، لكنني اكتشفت أن شيئا قد حصل.

لقد اكتشفت أنني في المستشفى.  ماذا؟  كيف؟ منذ متى؟ لا أعلم حقا…

طلبت من أحد الحاضرين أن يرافقني إلى الحمام، لأجدني قد كبرت. لم أتعرف على نفسي، و لم تتعرف علي هي الأخرى. حتى المرآة تجاوزتني، و لم تستطع الكذب هذه المرة.

         لقد مر وقت طويل على دخولي المستشفى. جلست طويلا أمام المرآة، أتطلع في صورتي مرارا، لأجد نفس اللون الشاحب، نفس النظرات المهزومة، المثقلة بالحزن، لم أتحمل هذا المشهد و هرعت سائلا ذلك الشخص الذي رافقني،فأكتشف أنه أخي. بدأت في استعادة ذاكرتي تدريجيا، حتى تعرفت على أبي ، استدرت  باحثا عن أمي. كنت قد اشتقت لها اشتياقا رهيبا و لم أعثر عليها. فسألت أبي قائلا:

أين أمي؟-

          فتحت عيناي لأجد نفسي في السجن. لا أعلم كم مر من الوقت. لكن السجناء كانوا يرددون هذه العبارة و التي لا شك في أنها كانت موجهة لي: ”لقد مرت سنة على مجيء ضيفنا و لم يحدثنا بعد”.

-سنة؟ أين؟ في السجن؟ أربعة فصول؟  ما ذا فعلت؟

بدأ السجناء في الضحك بشكل هستيري و أنا أصول و أجول في الزنزانة مسرعا، أردد نفس الكلمات حتى وصفني الجميع بالجنون، إلا واحدا: كان شابا وسيما لا تليق به بذلة السجين البرتقالية اللعينة فأوقفني قائلا:

-اجلس أيها الفتى، لقد أصبتني بالدوار. جلست بقربه خائفا. أحاط بنا السجناء مشكلين بذلك دائرة كاملة. فشرع في سؤالي: ” ما اسمك؟  ولماذ ا أتيت إلى السجن؟

-اسمي… لا أعلم. ألدي اسم؟

ضحك السجناء مرة أخرى بنوع من السخرية. فقال أحدهم: ‘إ’نه صغير حمامة ، لا يجيد الكلام و يحسب الصمت حكمة، اتركه و شأنه: إنه يظننا جبناء”.أثارت هذه العبارة غضبي، فاستدرت و لكمت ناطقها. كان في الواقع ”زعيم الزنزانة”، هو الذي يعطي الأوامر و يسن القوانين الداخلية. و أنا تجرأت على لكمه. أدى بي هذا الفعل

إلى تلقي  لكمات أقوى بكثير من لكمتي الضعيفة. لأفقد وعيي تماما.

كنت أشعر و كأنني أغرق عندما فتحت عيناي، لأجد حارس السجن قد ألقى علي كوبا من الماء. انسحب السجناء كلهم… لا، فقد تم نقلي إلى زنزانة انفرادية لا حميم لي فيها سوى نافذة ضيقة تطل على المحيط.

ذات صباح، سمعت باب زنزانتي يفتح بغضب، لقد كان الحارس، جاء ليصطحبني إلى قاعة الاستجواب. الاستجواب؟ ما ذا سأقول ؟ كيف أرد ان سألني أحدهم و قال لماذا؟  إني تائه لا أعرف من أنا. وكل ما أتذكره هو رنة الهاتف و كلمات ”بينك فلويد” المسببة للإحباط.

.

بدأ الاستجواب. تقدم الشخص الأول و قال:

-” كيف يجدر بك أن تتخلف عن موعد دفن أمك؟ كيف لك أن تثير الفوضى في المستشفى و تعتدي على الموظفين؟ كيف لك أن تخل بالنظام العام ؟فقط أجب دون مقدمات طللية أو تلاعبات صبيانية. أأنت مريض؟ أم أنك تدعي القوة  و تهدف عن طريق خروقاتك هاته إلى تحدي العدالة؟

– رن الهاتف, أجبت أبي و قد قال لي و هو يبكي:” لقد ماتت أمك، كن صبورا. نحن في انتظارك”

           كسرت هاتفي و كل شيء في الغرفة ….

             أصبت بجروح بليغة قادتني إلى المستعجلات: هناك التقيت أبي و أخي. لم أكن ذو شخصية قوية لأتصدى إلى هذه الصدمة القوية, خاصة و أنني دخلت في غيبوبة لمدة سبعة أشهر متتالية, لم أشعر بمرور الوقت و كنت أظن أن  أمي على قيد الحياة. عجز أخي عن مواساتي، و حاول إقناعي بموتها. لكنني لم أصدق. و بدأت حينها بالتكسير, لقد كسرت كل شيء حتى أنف الطبيب لم يسلم من نوبة غضبي.

تم استدعاء الشرطة و ثم سجني مباشرة بعد ذلك. في الزنزانة، دخلت في صراع مع ”الزعيم” و هو رجل في الثلاثينات من عمره. كل السجناء كانوا يتعاطون المخدرات إلا أنا. ليرغمني على تناول عقاقير مهلوسة أدت بي إلى فقدان صوابي. مر الحارس بالقرب من الزنزانة ليتم نقلي إلى السجن الانفرادي.

– الآن، نعم إنني قد تذكرت سيدي. أنا مجرم و وجب تجريدي من الحرية ،بكى الرجل بخجل و كأنه لا يريد إبداء تأثره … فإذا به يصوب مسدسه نحوي.

رن الهاتف و كان الصباح قد أطل و رائحة الخبز و الشاي تنبعث من المطبخ, لتليها نداءات أمي المتتالية:
” …نحن في انتظارك لتناول الفطور…”

أووف، لقد كان كابوسا لعينا، الحمد لله.

.

.

بقلم : كريم الحدادي

كاتب،  باحث بسلك الماستر المتخصص في اللغة الفرنسية

مولاي بوعزة،إقليم خنيفرة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “كريم الحدادي يكتب: الكابوس

  1. كابوس بين السطور والعصور مرورا بالغريب والسجين..

: / :