عزيز حسنيوي يكتب: طوفان

23 نوفمبر 2021
 
 
..بعد رحيل “الحاج الحسين” بسبب تلك الحادثة المروعة، التي أودت به طريحا رفقة هؤلاء الركاب، غيم الحزن، والألم في منزله. فكانت زوجته “الحاجة رقية” تتقاسم أوجاعها مع جاراتها في قبة المنزل، أما ابنها الوحيد “سعيد” فكان شارد الذهن داخل بيته الصغير المظلم، لم يستوعب موت والده. ارتدى ملابسه، ووضع قبعته السوداء واتجه نحو المقهى الذي كان يشتغل فيه عمه نادلا. جلس “سعيد” منفردا وفي رأسه طوفان من الأسئلة؛ كيف سيدبر شؤون المنزل، وهو عاطل عن العمل؟.. كان صوت ثلة من الرجال يعلو أرجاء المقهى، وتعلو معه قهقهاتهم فرحا بوصول أبنائهم “الحراگة” إلى الضفة الأخرى.
 
اشتدت غبطة “سعيد” لهؤلاء الشباب بعدما فكر مليا في هذا الحل، الذي سينجيه نوعا ما من الفقر. اتجه صوب هؤلاء الرجال بغية إرشاده إلى مكان “الحراگ”، وكم يلزم الأمر من المال، والوقت. وبعد أخذ ورد شكرهم “سعيد” على هذا المعروف، وعاد أدراجه إلى المنزل. كان الصمت يملأ فضاء المنزل ذلك المساء. كانت “الحاجة رقية” تسبحل، وتحمدل بعدما انتهت من صلاتها، بصوت تحذوه نبرات حزينة.
 
قبل “سعيد” رأس والدته ودخل بيته، وارتمى على ظهره فوق أريكته دون أن يخلع حذاءه البني، كان يفكر في مصيره إن فشلت تلك المغامرة البحرية، سيما وأن عددا كبيرا من “الحراگة” ألقى بهم البحر جثثا هامدة إلى جانب البحر! وماذا إن كان سعيد مثل هؤلاء؟! لمن سيترك أمه بعدما اكتسى الشيب خصلات شعرها، بل كيف سيتزوج محبوبته نعيمة التي كان قد وعدها بالزواج منذ أيام الجامعة. كان النوم يداعب جفناه من شدة التفكير والإرهاق، وفي غفلة منه أخذته سنة، ونوم إلى حلم عميق..، خيل إليه فيه أنه في ظلمات البحر، وصور قروش مرعبة تقترب منه، مما جعله يستفيق من حلمه مفزوعا.. كان “سعيد” يتصبب عرقا من شدة الخوف والفزع، دخلت أمه البيت على غفلة منه، فسألته عن ما ألم به؟! فأخبرها بما جرى في المقهى وبما رآه في الحلم.
 
كانت أمه تهدئ من روعته، وتدعو له الله بفرج قريب. كانت رائحة الفاصوليا تؤذن بتناول وجبة العشاء، سد “سعيد” وأمه رمقهما، وخلدا للنوم.. كان صوت هاتف “الحاجة رقية” يرن صباحا – وهي في المطبخ – بينما سعيد كان يبحث عن جواربه داخل قش من الملابس.. أجابت “الحاجة رقية” عن المكالمة، فإذا بإدارة المعمل الذي كان يشتغل فيه زوجها بوابا، تطلب منها أن يعوض ابنه “سعيد” مكان والده، وأن يبدأ العمل منذ اليوم الموالي إن رحب بالفكرة.. أسرعت “الحاجة رقية” وأخبرت ابنها بالفكرة التي قبلها بصدر تملؤه الفرحة، فما كان له إلا أن ضم أمه بين ذراعيه وعيناهما تذرفان الدموع.. وهو يردد: “اللهم قطران بلادي ولا عسل البلدان”.
 
عزيز حسنيوي – مدينة أرفود
باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

3 comments on “عزيز حسنيوي يكتب: طوفان

  1. عبد المالك بيطوز نوفمبر 24, 2021

    جميل جدا أستاذي الفاضل السيد عزيز حسنيوي الرجل الطيب الجميل والمتميز.
    أحسن الله إليك ووفقك العلي القدير في مسيرتك العلمية والمهنية.

  2. تبارك الله عليك خويا عزيز ما شالله عليك??

  3. محمد وسكوك نوفمبر 27, 2021

    سرد رائع للأحداث …بالتوفيق أستاذي العزيز..

: / :