سلمى العلالي  تكتب: الشرف …. حين تصبح الجريمة هدفا مشتركا؟

30 نوفمبر 2020

قراءة في رواية قصة موت معلن للكاتب “غابرييل غارسيا ماركيز”

تقديم

       تمثل رواية “قصة موت معلن” نموذجا ثريا للأدب البوليسي والواقعية السحرية التي يزخر بها أدب امريكا اللاتينية، وتستمد الرواية واقعيتها لاستنادها على أحداث واقعية لجريمة قتل بالريف الكولومبي سنة 1951 ،حيث كان ماركيز أحد الصحفيين الذين كتبوا عن هذا الحادث. بعد سنوات يعود ماركيز للكشف عن مستندات هذه الحادثة بالاعتماد على شهادات الأفراد الذين عايشوا ذلك الحادث ومحاضر التحقيق وما كتب بالجرائد آنذاك، حيث سيصوغ ماركيز على ما عثر  عليه  في شكل أدبي وفي قالب روائي ساحر.

       قصة موت معلن هي اعلان صريح عن جريمة قتل  دافعها شرف العائلة. تعالج الرواية تيمة الشرف وعلاقته بالفضيحة في مجتمع ريفي، تؤتت فضاء مرجعياته التقاليد والأعراف. فالشرف على حد تعبير الراوي “لا يحتمل الانتظار” أي ان حضوره مرتبط بالوضوح والشفافية والسرعة ، وحين يتعلق الأمر بالعذرية فلا مجال للشك،  كما يقول الشاعر محمود درويش” ففي الانتظار  يصيبني هوس برصد الاحتمالات الممكنة” والشرف هو امر محتوم لا يحتمل انتظار الممكنات. تروي الرواية حيثيات جريمة قتل شخصية “سانتياغو نصار” على يد “الإخوة فيكاريو “انتقاما لشرف العائلة بعد أن أعيدت أخت القتلة “أنخيلا”إلى أهلها من قبل زوجها ليلة الزفاف عندما اكتشف أنها ليست عذراء.

      ان القارئ لهذه الرواية سيستشف الأسلوب الأدبي الذي وظفه ماركيز وذلك عبر معلومات صحفية حيث حافظ على شد وانتباه القارئ من خلال بعض الإضاءات الصغيرة حول  شخصية “سانتياغو نصار” وعن حياته وشبابه.  فهو بذلك استخدم الذكاء الصحفي لجرد آراء الشخصيات حول شخصية نصار ومقتله.

بعد قراءتنا لهذه الرواية استحضرتنا العديد من الأسئلة سنحاول الإجابة عنها فيما يلي:

أولا :لماذا كتب ماركيز هذه الرواية؟

ان الوعي الذي كتب به ” غارسيا ماركيز “روايته “قصة موت معلن” لهو  في تصوري وعي انساني، استحضر فيه الواجب المهني باعتباره كان شاهدا على هذه الاحداث من منظور صحفي، فاعتمد على ذاكرته المهشمة التي علقت فيها بعض تفاصيل الجريمة.

ثانيا : ما الغاية التي جعلت ماركيز ينتقل من العجائبي الى الواقعي؟

 كما نعلم، فقد دافع ماركيز في مختلف كتاباته عن الانسانية وانتقد الواقع الشيوعي الذي يستعبد الإنسان،  لكن هذه الرواية هي تجربة فريدة لماركيز حيث انتقل من الخيال الى الواقع المعاش  بشكل فجائي. هنا يمكن للقارئ ان يطرح اشكالات حول هذا التغيير و  الاجابة في اعتقادي ستكون: هو كونه بدأ صحفيا فكأنه اراد ان يحيي صلة الرحم مع عالم الصحافة و التحقيقات ،اذ هذا يدل على الوفاء الكبير لمهنته الأولى التي من خلالها ولج الى عالم الكتابة الابداعية.  ان هذا التمرس الصحفي ساعد الروائي “غارسيا ماركيز” في انتاج رواية قيمة يحضر فيها الواقعي و ما اشتهر به من بعد عجائبي، وفي تقديرنا فقد توفق جدا في تدشين ادب بوليسي يحاكي الواقع وينسج خيوطه من خلال اسلوب وصفي دقيق ،يحضر فيه عنصري التشويق والاثارة.

ثالثا: متى تصبح الجريمة هدفا مشتركا؟

      ان رواية “قصة موت معلن “هي مرآة تعكس خبايا الذات الإنسانية: اي كيف يصير الفرد مشاركا في جريمة قتل لم يقم بها. لقد كرر  راوي الرواية عبارة اساسية ألا وهي “قتل سانتياغو نصار ذو الأصول العربية” هذه العبارة التي تتوزع على مختلف فصول الرواية هي بمثابة ناقوس خطر كان يدقه ماركيز . ان هذا التكرار يحتمل احتمالين  اثنان لا ثالث لهما:

الاحتمال الاول بما يفيد ان” سانتياغو نصار” يستحق القتل لأنه اقدم على فعل شنيع الا وهو  تلطيخ سمعة الآنسة ”   أنخيلا  ” اخت الأخوين التوأم “بابلو و بيدرو  فيكاريو”،     اللذان سيقدمان على قتله. أما الاحتمال الثاني هو كون العبارة تفيد ان الاصول العربية لشخصية نصار كافية لاتهامه بهذا الفعل المشين .

      ان النظر في الاحتمالين وربطهما بمسار الرواية يجعلنا في لبس وغموض كبيرين ،خاصة ان الكاتب اختار الاحتفاظ بالحكم الذي ناله نصار ، فظل في أعين القارئ المتهم الوحيد بدون ان تثبت ادانته من عدمها.

       لقد  قدم لنا الروائي “غارسيا ماركيز “العديد من الشكوك والأدلة حول جريمة قتل شخصية “سانتياغو نصار” وكيف ان الجميع لم يحاولوا ان ينقذوه رغم معرفتهم المسبقة بذلك، فالأخوين “فيكاريو” عبرا عن  رغبتهما بقتل “سانتياغو  نصار” لكن لم يتفاعل أحد من سكان القرية مع أقوالهما ،يقول الراوي في هذا الصدد ” لم يكونا الاخوين فيكاريو متشوقين لتنفيد الحكم بقدر تشوقهما للعثور على من يعمل لهما معروفا بمنعهما من ذلك ” ان هذه العبارة تجعلني استحضر روايات اجاثا كريستي هناك رواية حبكتها الاساسية هي الاعلان  عن جريمة قتل بالجريدة والكل يعلم لكن لا أحد يتمكن من منع وقوعها.

      استنادا لما سبق فقد ساهم سكان القرية ومعارف كل من الاخوين “فيكاريو” والضحية “سانتياغو نصار” في وقوع هذه الجريمة تارة باللامبالاة، تارة بالاستهزاء ،ثم تارة اخرى بالتشجيع… فالمغدور واحد، والمساهمون في الجريمة مجموعة من الشخصيات لها طبائع مختلفة تحكمها هواجس و عقد نفسية. يقول الراوي مبينا لهذا التضارب في نفسية الشخصيات :” غالبية الذين كان بإمكانهم عمل شيء لمنع وقوع الجريمة ولم يفعلوا، واسوا انفسهم بحجة ان قضايا الشرف هي وقف مقدس لا يقربه الا  اصحاب المأساة”  . بل حتى من تفاعلوا مع اقوال الأخويين “فيكايرو “لم يستطيعوا عمل شيء حيث وقع الشك في نفس  شخصية “فاوستينو سانتوس”، وهو جزّار حيث يبلغ الشرطي” لينادرو بوروني” بتهديد الأخوين. فيذهب الأخوان إلى محل بائعة الحليب “كلوتيلدي أرمينتا”، ويخبرانها أيضا بعزمهما على قتل سانتياغو، وتلاحظ بنفسها السكاكين الملفوفة بالخرق.

      في غضون ذلك، يتكلم الضابط “ليندرو “مع الكولونيل “أبونتي” الذي لا يغادر بيته إلا بعد ارتداء ملابسه بكل أريحية وبعد تناول طعام إفطاره، ثم ينطلق إلى دكان بيع الحليب ويجرد الأخوين من سكينيهما ويطلب منهما الذهاب لأخذ قسط من النوم، رغم أنه يعلن أنهما مدعيان لا أكثر. ترغب “كلوتيلدي” بأن تجنب هذين الصبيين ارتكاب هذا الفعل الشنيع فتحاول إقناع “الكولونيل أبونتي “بأن يواصل تحرياته لكي يتمكن مِن إيقافهما. ولكن الكولونيل لا يقوم بأي شيء. حتى القسيس بعينه يعترف لاحقا بمسؤوليته حيث يقول مبررا استهتاره بالخبر : “لم أعرف ما الذي ينبغي علي فعله… لم يكن الأمر متعلقا بي، فهو عمل السلطات المدنية”. يقرر القسيس أن يذكر التهديد لوالدة سانتياغو، ولكن نظرا لتحمسه لمقدم المطران، ينسى موضوع سانتياغو.

     من خلال ما سبق يتبين لنا ان الروائي “غابرييل غارسيا ماركيز” قد عكس صورة الكائن البشري المستهتر، حيث ان كل شخصيات الرواية ساهمت بعدم تفاعلها مع اقوال الاخوين في وقوع جريمة القتل. وهذا ما جعل الروائي يخلص الى قولة عميقة  ان” القدر يجعلنا غير مرئيين” اي ان وجود الشخصيات كان فقط  لحظيا ولم يكن كقوى فاعلة في احداث الرواية.

 خاتمة

      هكذا تنتهي رواية قصة موت معلن دون الاعلان عن براءة او ادانة الضحية “سانتياغو نصار” الذي اتهم بارتكابه جريمة شرف في حق الانسة “انخيلا”.

تكتسي الرواية ملامح الادب البوليسي  بأسلوب واقعي يجعل القارئ  يندهش من الاحداث رغم معرفته مسبقا بالنهاية المحتومة منذ اول وهلة.

      رواية قصة موت معلن هي انتحار للسلطة الدينية والقانونية، هي الوعي اللامسؤول و الاستسلام الفعلي للقدر العابث.

الباحثة سلمى العلالي – مدينة سلا

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “سلمى العلالي  تكتب: الشرف …. حين تصبح الجريمة هدفا مشتركا؟

  1. نورالدين المسكين نوفمبر 30, 2020

    موفقة دائما أستاذة سلمى

: / :