رشيد فعدة يكتب: التعلم من منظور المقاربة البنائية

7 أبريل 2023

يقول الفيلسوف أرسطو : “إن من ينظر إلى الأشياء انطلاقاً من بداية نموها سيحصل على نظرة أوضح لهذه الأشياء ” وهذا ما ذهبت في إتباعه الكثير من النظريات والمقاربات في دراسة و فهم وتفسير ظاهرة التعلم ؛ فقد شغل مفهوم “التعلم” اهتمام الكثير من المجالات والميادين الفكرية والمعرفية كعلم النفس – علم الاجتماع – علوم التربية وتضاربت حوله الكثير من النظريات والمقاربات كل من موقعها و منطلقها ، وسيكون موضوع مقالنا اليوم حول النظرية البنائية التكوينية للتعلم .
فكيف قاربت هذه الأخيرة موضوع التعلم ؟ و ما هو المنهج المتبع في الدراسة؟ و ما هي المفاهيم المركزية التي جاءت بها في تفسير التعلم لدى الإنسان؟

عملت النظرية البنائية في دراستها لموضوع التعلم على الرجوع إلى الإرهاصات الأولى و ذلك عبر ملاحظة
و تتبع مراحل التعلم منذ الولادة حتى النضج، ولعله من نافلة القول الإشارة إلى العالم “جون بياجي ” الذي يعتبر الأب الفعلي المؤسس لهذا الاتجاه الفكري، حيث درس النمو المعرفي للطفل مركزا على الذكاء الرياضي المنطقي.
كما بحث في تكوين معارف الطفل وفق بعدين أساسيين هما : البعد البيولوجي والبعد المعرفي. كما عمل على تفسير تطور البنيات المعرفية، حيث رأى أن تطور أداء الطفل يمر من طابعه العملي (المحسوس) إلى طابعه الصوري (المجرد) مبرراً بذلك أهمية العلاقة الجدلية بين الذات (العارفة) وموضوع المعرفة في ذلك التطور.

وبما أن لكل نظرية ما منهج متبع، فقد اعتمد “جون بياجي ” على التطبيق المرن للمنهج التجريبي في إطار مقاربة بنائية تكوينية لاكتساب المعارف من خلال تتبع مراحلها و سيرورات تكوينها عند الطفل، مستندا في ذلك على المنهج الوصفي وتحديداً المراقبة الطولية والتقطيع المرحلي لكل مرحلة من مراحل النمو.
و بما أنه لا يمكن الحديث من أي تصور نظري خارج حدود مصطلحاته و مفاهيمه، وأن أي نظرية بدون سجل مفاهيمي – يرسم لها حدودها وتقاطعاتها في غيرها من النظريات لا معنى لها ، فقد عمل “جون بياجي” على نحت مجموعة من المفاهيم التي أطلق عليها اسم الميكانيزمات في تفسير نظريته وذلك من قبيل: (التكيف -التوازن – الاستيعاب – التلاؤم ) و التي عن طريقها يقوم الطفل بدور نشيط في بناء معارفه وفي تفاعله مع محيطه .
و علیه ترى النظرية البنائية التكوينية أن المعرفة لا تكون مجرد انعكاس للعالم الخارجي بل هي معرفة مبنية على الفعل والنشاط ، فأفعال الطفل و نشاطاته تلعب دورا مركزيا في إنشاء المخطوطات الذهنية التي تساهم في نموه المعرفي.

ولتوضيح المقاربة التي جاءت بها النظرية البنائية أكثر، وظف “جون بياجي” مفهوم التوازن, حيث أن كل تصرف ما هو إلا استجابة لحاجة تتمظهر على شكل لا توازن، فيصبح التوازن بذلك هدفاً للعمل، و لبلوغ هذه الحالة يتم إستعمال ميكانيزمي الاستيعاب والتلاؤم اللذان يساعدان على انجاز و توظيف الحلول المناسبة عند مواجهة مشكل ما، كما يمكنه من التكيف مع البيئة عبر تفاعلات البنيات الذهنية والبيئية لإحداث توازن في بنيته المعرفية عبر نشاطه المستمر. حيث يعمل ميكانيزم الاستيعاب على تجريب الخطاطات الذهنية التي يتقنها لاستيعاب عناصر الموضوع ومن ثم تعديله، كما يعمل ميكانيزم التلاؤم على تعديل الخطاطات لتلائم وتستجيب مع خصائص الموضوع أو الوسط.
فالمعرفي عند “بياجي ” لا يعني نسخ الواقع كما هو، وإنما هو ممارسة الفعل عليه لتحويله وبذلك فهمه والتكيف
معه، و التكيف يتطلب تحقيقا للتوازن الذي يقصد به تهيئة قدرات الفرد وخبراته لتحقيقه.
وبذلك فتطور المعرفة لدى الطفل يرجع إلى اصطدامه بموضوعات جديدة تفرض عليه خلق خطاطات جديدة او توسيع مجال الخطاطات القديمة لتصبح قابلة للتطبيق على موضوعات متنوعة و مختلفة (مثال المقاربة بالكفايات في حقل التعليم / الوضعية المشكلة ).
لهذا يرى أنصار المقاربة البنائية التكوينية أنا للنمو دور مهم في ضبط حدود هذه التغيرات التي تقع على المعارف، فاكتساب المعارف يكون مرهونا بمستوى النمو البيولوجي الذي يصل إليه الطفل، بمعنى أن التعلم تابع للنمو حيث تندرج سيرورة تشكل المعارف كسيرورة تصاعدية بنائية نمائية تتم عبر مراحل متتالية ، حددها “بياجي” في أربعة مراحل أساسية:
1-المرحلة الحس – حركية : يكون الفعل فيها حسي – حركي و خلالها لايميز الرضيع بينه و بين العالم الخارجي
2- المرحلة ما قبل العمليات الإجرائية : تنمو فيها الوظيفة الرمزية واللغة و يتمركز الطفل في هذه الفترة حول ذاته

3-مرحلة العمليات الإجرائية : دخول الطفل الى العالم الاجتماعي (المدرسة) فيخرج من التمركز حول الذات إلى الانفتاح عن الآخر. كما تبدأ لديه العمليات الرياضية في التشكل ولكن يطغى عليها الجانب المحسوس
4-مرحلة العمليات المجردة: تتسم بالتفكير المنطقي والمجرد.

فحوى القول، حاولت النظرية البنائية مقاربة موضوع التعلم من ثلاث مقومات اساسية تتمثل في مقوم الذكاء الرياضي المنطقي، المقوم البيولوجي والمقوم المعرفي باعتبار أن الطفل حسب هذه النظرية يعد طفلا فيزيائيا فاعلا في بناء معارفه بالرغم من أنها معارف إجرائية ذهنية إلا أنها تتأتى و تتشكل كلها من التنظيم البيولوجي و البيئي المحيط به.

رشيد فعدة – مدينة الرشيدية

المراجع
هرمز، صباح حنا وإبراهيم يوسف (1980) علم النفس التكويني: الطفولة والمراهقة مديرية دار الكتب للطباعة والنشر الموصل العراق.

شطناوي عبد الكريم (1992) تطور لغة الطفل دار صفاء للطباعة، عمان، الأردن.

صالح أحمد زكي. (1974). علم النفس التربوي (10) مكتبة النهضة المصرية.

عماد عبد الرحمان زغلول، علي فاتح الهنداوي .مدخل الى علم النفس .دار الكتاب الجامعي.جامعة الامارات العربية المتحدة.
Piaget,J et Inherlder,B.(1966). La Psychologie de l’enfant .Paris. PUF

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :