حسن بوازكارن يكتب: أبناء الشارع

3 يوليو 2022
 
أمام الحديقة العمومية أعياه المسير وتوقف برهة من الزمن لاسترجاع الأنفاس، يرنو من بعيد ما يجري وسط الحديقة وخارجها في ساحة فسيحة مكتظة بشرا، أطفال صغار يلهون ويلعبون بألعاب ضخمة مثبة على الأرض لا يعرف أسماءها ولم تكن موجودة في طفولته، نساء وعجائز هدهنّ الوهن جالسات وهن يقهقهن على حافة طريق يعجّ بالحافلات المتمايلة من كثرة الركاب، والسيارات الفخمة التي تمر كالطيف وسط المدينة والموسيقى تنبعث منها قوية كأنها عرس عصري أقيم نهارا، فتيات في عمر الزهور بين زهور الحديقة وفي أحضان رفاقهن بلباسهن الشفاف المغري الذي يظهر مفاتن أجسادهن البضة البيضاء ونهودهن البارزة المغرية…
تذكر وقار وخجل وعفة نساء القرية اللواتي لا يستطعن حتى النظر في وجه الرجال خجلا، حتى وإن كانوا أزواجهن يستحين أن يعاملنهم بتلك الجرأة الزائدة التي رأها في حديقة المدينة، وهو الذي لم يرى زوجته إلا بعد أن عقد عليها وزفها إليه أهلها بعد عرس تقليدي دام لأسبوع لأن الأشياء الحقيقية تنضج على مهل وتؤودة وتأني، ليراها لأول مرة في غرفة نومه الطينية وهي متدثرة بدثار أبيض من وقار وفوق رأسها تاج من الزهور، ليمد إليها يده المرتعشة في خجل ظاهر ليكشف عن وجهها الشاحب الممتقع خوفا تعلوه دهشة البدايات، ليكون ذلك أول لقاء يجمعهما فعاشا سعادة مديدة رغم ما اعترى حياتهما من مشاكل كانت بمثابة ملح للأيامهما القروية البسيطة وانجبوا أولاد كثر أثتوا حياتهما ولم يفرقهما إلا الموت اللعين، حين سقطت زوجته من قائمة الأحياء باكرا بسبب مرض خبيث ومفاجئ فعاش أواخر حياته وحيدا يتنقل بين منازل بناته المتزوجات وابناءه الذين غادروا القرية إلى المدينة بحثا عن العمل والسعادة…
يستغرب وهو الجديد على المدينة كيف يعيش الناس في هذه الضوضاء التي لا تنقطع ليل نهار، وكيف يستحمل الناس قضاء نصف عمرهم في الإنتظار، انتظار وصول الحافلة، الانتظار في طابور طويل أمام المخبزة لشراء الخبز الساخن صباحا، الانتظار في طابور للحصول على وثيقة ادارية، انتظار ان يفتح باب المعمل…انهم يمضون اكثر من نصف حياتهم وهم ينتظرون والباقي يمضونه في الضجيج المزعج، فلا يستطيع المرئ أن ينعم ولو بهنيهة من السكينة والهدوء، كل المكان مكتظ بما يؤرق الانسان ويذهب عنه الطمأنينة والراحة النفسية.
يستغرب كيف ينتقل الناس الى العيش في المدن، وقد تركوا قرى فسيحة ورحبة وهادئة وخضراء ومنازل طينية شاسعة تكون دافئة شتاء وباردة صيفا عكس الطقس تماما، وينتقلون الى بيوت ضيقة باردة شتاء وشديدة الحرارة صيفا، كما يتركون حقول لا يحدها البصر ويتكثلون في حدائق صغيرة جدا ضجة بالأزبال و القطط والكلاب والسكارى والمشردين والهاربات…
يمشي بين جموع من الغادي والرائح يتدافع معهم بالمناكب في رصيف ضيق في شارع مختنق في مدينة ميتة تزكم رائحة مزابلها الأنوف وتخنق الحياة.
ينظر ويتأمل في وجوه من يصادفهم، والخوف بادٍ على قسمات الوجوه العابسة، لا أحد يطمئن للأخر، الناس كلهم في حذر حقيقي. دماء الناس ممزوجة بالخوف والرهبة لكثرة ما سمعوا قصص تدمي القلب لأناس كانوا ضحية المدينة ولم يتسلحوا بالحذر اللازم تجاهها…
سيل متدفق من المارين في ظرف وجيز من الزمن في وقت الدٍّروة، شباب تائه، يرتدون ملابس ناعمة زاهية الألوان، إن رأيتهم تظنهم نساء، ونساء كالرجال أصواتهن خشنة ومنفرة أفقدتهن القسوة أنوثتهن، فيسرن في الطرقات يوزعن الشتائم ويدخن السجائر، ويبعن أجسادهن في الحدائق والسيارات ومنازل العزّب لضمان قوت يومهنّ في مدينة لا تعترف إلا بالمال والكثير من المال.
تمنى لو عادت به الأيام للصبى حين كان يتمنى زيارة المدينة ولم تتح له حينها الفرصة، لكان قد متع نفسه وغرق في ملذات ليل المدينة الطويل.
انعطف مع زقاق ضيق والحسرات تملء قلبه الواهن، ويدندن بعبارة خافتة : ” المدينة تصلح للشباب فقط”. يمشي الهوينى ويدندن بأغاني بائدة من زمن أفل، تذكر حياته الهادئة في القرية، وبشاشة الناس رغم ضيق ذات اليد، قال بصوت جهوري حاد :” القناعة، القناعة غنى…”.
وعند منعطف الزقاق المفضي إلى منزل ابنه، توقف عليه شابان، ترجل أحدهم من الدراجة النارية وفي يده مديةٌ حادة واتجه نحو الشيخ متمايلا من السُّكر، ووضعها فوق رقبته المجعدة المعرورقة وأمره بأن لا يتحرك من مكانه وأن يمنحه ما في جعبته من مال دون مقاومة، لم يشفع له رأسه المشتعل شيبا ولا ظهره الأعوج من الهرم ولا عكازه الذي يتوكأ عليه ولا تجاعيد السنين التر غزت جسده.
قهقه الشيخ وهو يرد عليه :” يا بني هل شكلي يوحي بأنني اتوفر على المال”
قهقه ملء أشداقه وهو يردد :”باض ديككم…باض ديككم يا جردان المدينة ”
فطن الشابان بأنهم وقعا في الشخص الخطأ، ولن يفيدهما الدخول مع الشيخ في أي شجار محتمل، فأثرا الإنسحاب منكسي الرأس، وقبل أن ينسحب السكير دفع الشيء دفعة قوية يجعلته يقع على الأرض وعكازه طار بعيدا، واختفيا في ظلام المدينة.
قام بهدوءه الشيخ المعهود ولملم شتاته، ونفض عن جلبابه القاني غبار الزقاق العتيق، وقال وهو يقهقه كأن شيء لم يقع:
” أبناء الشارع كالجردان النتنة لا يفرقون بين الغث والسمين، والجيد والقبيح…”
 
حسن بوازكارن – مدينة أولوز

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :