إسماعيل هواري يكتب: الكرافيتيا، صرخة صامتة لإعادة التفكير في الهامش

15 فبراير 2021

تقديم

تعتبر الكرافيتيا  Graffitiفنا ارتجاليا تميز بالسحر والعجب العجاب. وقد وصفها الدكتور أحمد شراك بكونها فنا نضاليا حيث قال: “… وأن وجودها يدخل في سياق النضال الوطني، أي كسلاح من أجل التعبئة وتقوية الحس الوطني…”[1] حيث أن أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الكرافيتيا هو الطاغ الأمريكي الذي ظهر كحركة مناهضة للتهميش والميز العنصري والإقصاء. حيث استعمل هذا الفن كوسيلة للتعبأة الجماهرية وللتحريض و التوعية في العديد من السياقات الدولية: كالولايات المتحدة الأمريكية ، وإيطاليا، ولبنان، وفلسطين، وغيرها من البلدان. وتؤدي الكرافيتيا وظائف عديدة من بينها: الوظيفة التعبيرية، والوظيفة التواصلية، والوظيفة الاجتماعية، وغيرها.

وينبع اختيار دراسة عمل يتأطر ضمن خانة الكرافيتيا من حيث كونها شكلا من أشكال الفن المعاصر و كذا من حيث أن العمل الفني موضوع الدراسة يلامس الواقع الذي نعيشه من الناحية الفنية و السياسية وكذا الاجتماعية.

  • وصف المحمولات الفنية:

يعود هذا العمل الفني الكرافيتي لأحد المهاجرين النازحين من إفريقيا جنوب الصحراء نحو المغرب بحثا عن حياة أفضل. رسم بمدينة الرشيدية على أحد الجدران القريبة من محطة الحافلة حيث كان يقيم هؤلاء المهاجرون المغامرون.

أنجز هذا الرسم على حائط طاله من البول والقذارة ما جعل سكان المدينة يتجنبون الجلوس قربه فكان مرتعا للحمقى و المنبوذين. فكان هذا المكان اختيارا للمهاجرين الأفارقة اتخذوه مأو يلوذون إليه ومجال إبداع يعبرون من خلاله عما يحسون به.

 يحتوي الرسم على ثلاثة وجوه بشرية؛ أحد هذه الوجوه مرسوم بشكل كلي ويرتدي طربوشا، أما الوجهان الآخران فيختفي جزء منهما خلف طربوش الوجه الأول. رسمت كذلك حروف كبيرة متراكبة باللاتينية ملتصقة بهذه الوجوه من الأسفل وهي الحرف N والحرف T. أستعمل في إنجاز هذا العمل ثلاثة ألوان: الأسود والأخضر والأزرق.

  • تحليل المحمولات الفنية:

يندرج هذا العمل الفني ضمن خانة الغرافيتيا وهي حركة فنية مناضلة ثائرة على جميع أشكال الضبط والتوجيه لا من داخل الفن ولا من الناحية السوسيولوجية والسياسية. ذلك أن الغرافيتيا لا تعترف بانتمائها لأي مدرسة فنية أو مؤسسة اجتماعية أو اتجاه فكري. وبذلك فهي تِؤسس جمالياتها من منطلقاتها الخاصة. فلا حديث فيها عن الالتزام بالمنظور أو الانصياع لقواعد ما كاستقلال اللون، أو صفاء الأشكال، أو قوة الزخرفة أو غيرها. فكل ما يميز ‘الكرافيتيا’  بوصفها خربشة هو التوقيع والسرعة والرسالة.

فلا تكاد تجد خربشة إلا ووجدتها تحمل توقيعا ما. في هذا العمل أيضا يوجد حرفان متراكبان هما  Nو T وهما حرفان لاتينيان متراكبان بطريقة فنية لا تخلو من إبداع. ويبدو أن الرسام استعمل اللون الأسود لتحديد الأشكال المراد التعبير بها )هندسة الطربوش،  والوجوه الاهليليجية المتراكبة، والحروف المتداخلة( وهو رسم للحدود والتخوم بين ما هو ثقافي)  الحروف، الطربوش( وما هو طبيعي  (وجه الانسان). أما اللون الأخضر فلونت به المساحة وسط الحروف وجزء من الطربوش الذي شغل مساحة هامة مقارنة بالأشكال الأخرى التي تؤثث هذا العمل.

تطبع الوجوه  المرسومة تيمة الاختلاف النوعي، حيث أن الوجه البارز هو وجه رجل ذي أصول إفريقية،  بعينين كبيرتين وشفتين كبيرتين؛ والوجه الخلفي هو وجه امرأة  جاحظة العين ذات شعر أشعث طاله من الإهمال ما طالها في الحياة.

RadioMarocCulture Capture D’écran 2021 02 15 À 11.42.27

لوحة كرافيتية بمدينة الرشيدية لأحد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء
  • تأويل المحمولات الفنية:

يعتبر هذا العمل الفني محاولة لإتمام المرور من حالة الامكان النوعي إلى حالة الوجود؛ وذلك بالاستناد إلى سيميائيات شارل ساندرس بورس أو ‘العلامة الأيقونية[2] كما سماها الدكتور عبدالله بريمي. يحتوي هذا العمل الفني العفوي الكرافيتي على جملة من الرموز والعلامات التي ينبغي تأويلها لمحاولة قراءة وفهم الدوافع النفسية والاجتماعية وكذا السياسية التي جعلت هذا الفنان(ة) يرسم هذا الرسم على الجدار الخلفي لمحل العتميري الشهير بأكلة ‘أومليط كشير’ بمدينة الرشيدية. هذا المكان يكتسي رمزية خاصة باعتباره ينتمي للهامش. وما زاده رمزية ودلالة  هو احتضانه شكلا فنيا ينتمي هو الآخر للهامش؛ وذلك من أجل التعبير عن المهمشين، والمستضعفين، والمقصيين، والمقهورين، والمنبوذين. وهو ما يؤكد الخلل القائم على مستوى مقاربة الإدماج و إعادة الإدماج المتبعة في سياسة تدبير الهامش بالمغرب. هذا يحيلنا على فكرة محورية عبر عنها أحمد شراك  مفادها أن الهامش يمأسس في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسة بالتهميش[3]. و باعتبار الطربوش علامة دالة، فإنه يضفي على الخربشة طابعا سلطويا؛ فتواجده في أعلى الرسم وأخزه مساحة هامة بالمقارنة مع العناصر المؤثثة  للعمل يمنحه معاني عديدة. ذلك أن شكله العمودي يوحي بالأبهة  والعظمة. فالطربوش في الثقافة الإفريقية مرتبط بالسلطة الرمزية  لرجل الدين والسياسة ( الحاكم، الرئيس، الراهب، الإمام، العسكري،) ومرتبط كذلك بالطبقة الراقية في المجتمع (البرجوازي، الباشا، الأفندي،…) وما يؤكد ذلك تلوين جزء منه باللون الأخضر الذي يعتبر لونا ذا حمولة سيميائية مكثفة؛ فهو لون الطبيعة والحياة، ولون الروحانيات، والقوى الخارقة والقداسة؛ ولذلك لا يكاد يخلو عَلم إفريقي من هذا اللون.

الوجوه في هذا العمل تدل على التهميش، والشعور بالدونية، والخوف وهذا ما يبدو من خلال الوضع المتراكب للوجوه وكذا جحوظ العينين بالإضافة إلى وضع الفم المغلق الدال على الصمت والقمع والمعاناة. ووضع الوجه الأنثوي في الخلف هو تأكيد على صورة المرأة في المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الفنان باعتباره مجتمع قهر اجتماعي وسياسي، حيث تعاني المرأة من التهميش والتحقير والتقزيم.

الحروف اللاتينية تحيل على الهوية التي ينسب الفنان نفسه إليها. وهو ما يطرح أكثر من تساؤل عن ملابسات غياب اللغات الإفريقية على اختلافها وتعددها. هل هو استلاب ثقافي؟ أم انفتاح؟ هل هو دعوة للتحرر من ‘الهوية العمياء’ على حد تعبير عبدالكبير الخطيبي ؟ أم هو تأكيد للقمع الممارس على الذات، بلغة ‘الانسان المقهور’؟ الحروف اللاتينية تخفي بين طياتها معاني غامضة قد تحيل على الأحرف الأولى من اسم الفنان أو اسم محبوبته أو ربما أحرفا من اسم بلده. كل هذا مجرد فرضيات لا تقبل النفي ولا الاثبات؛ وإنما تتيح إمكانية فتح أفق جديد يستشرف عوالم الانسان الباطنية ومحاولة فهمها وتفسيرها.

أما الألوان المستعملة في هذا العمل فهي الأسود، والأزرق، والأخضر. الأسود لرسم الحدود والتخوم، فهو لون محايد يدل على الغموض والتيه في عالم المجهول؛ وهو على ما يبدو العالم الذي تعيشه جماعة المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء. اللون الأزرق الداكن ممزوج مع الأسود على الوجوه دلالة على ما تعانيه هذه الشخوص  من  معاناة نفسية واجتماعية أو حتى جسدية. أما اللون الأخضر فيضفي جمالية خاصة للرسم؛ حيث يصور لنا الجانب المشرق في هذا العالم: إنه الأمل؛ إنه التمسك بالحياة والرغبة في تحسين الوضع الإنساني.

  • تقييم وتقويم المحمولات الفنية:

يتميز هذا العمل الفني الكرافيتي بالعفوية،  والبلاغة التعبيرية،  وكذا التكثيف الدلالي. ونجزم بالقول إن هذا العمل نابع من ذات مبدعة متمكنة من إدراك مكامن القوة و مواطن الضعف في التعامل مع الفني، وذلك بغض النظر عن أصل هذا الفنان أو جنسه؛ وإن هذا الرسم الجداري ليحمل من صاحبه من المعاني كما يحمل ذاك الجدار من تربة الرشيدية. وهو الموقف ذاته الذي يؤكده الفيلسوف بومغارتن في كتابه “أصل العمل الفني” حيث يصير الفنان  هو نفسه العمل الفني. فبالرغم من فقر المادة المستعملة لإنجاز هذا الرسم (طباشبر، فحم، طوب،)؛ إلا أنه استطاع تصوير انفعالاته الداخلية وتفاعلاته مع محيطه بشكل بليغ.

خاتمة

    يتضح من خلال ما سبق ذكره، أن هذا العمل الفني يحمل دلالات ورسائل مختلفة. إنها رسائل واضحة بالحق صادحة، خطت على جدار التهميش ثم صاحت لا للتهميش. إنها خربشات توجه صفعة للمجتمع لإعادة النظر في ميكانيزمات التفاعل السوسيوثقافي، وتوجه صفعة  للسياسي من أجل إعادة بناء مقاربة إدماج فعالة تنم عن إرادة حقيقية في تبني الهامش والنهوض به، وتوجه كذلك صفعة للحقوقي من أجل رد الاعتبار لإنسانية الانسان بعيدا عن الحسابات الضيقة والمزايدات العقيمة.

إسماعيل هواري – مدينة مريرت

لائحة المراجع والمصادر

  • أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش و المنع والكتابة”، ط2009
  • عبدالكبيرالخطيبي “الفن العربي المعاصر” ترجمة فريد الزاهي، ط 2003
  • بريمي عبد الله “مطاردة العلامات، بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية”، دار كنوز المعرفة العلمية، ط2016
  • Martin Heidegger « THE ORIGIN OF THE WORK OF ART » Translated by Roger Berkowitz and Philippe Nonet.Draft, December 2006

[1] د. أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش و المنع والكتابة”، ط2009 ، ص70

[2]   بريمي عبد الله “مطاردة العلامات، بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية”، دار كنوز المعرفة العلمية، ط2016، ص 229

[3]  د. أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش و المنع والكتابة”، ط2009 ، ص70

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :