إسماعيل بخوت يكتب: لم يعد لدي يا ابني

9 يناير 2023

أزال شيئا من العرق على جبينه بيده، و شيئا منه ساح على سحنته السمراء، كانت بعض القطرات قد سقطت على قميصه الفضفاض، لم يعيرها أي إهتمام، أصبح يرتدي فقط من أجل السترة، لم تعد جمالية اللباس على جسمه تبعث فيه شيئا من النشوة، مات فيه هذا الإحساس.
وضع دراجته النارية في موقف الدرجات، نوعها قديم جدا، مازال متشبتا بها، ليس حبا فيها بل لعدم امتلاكه نقود من أجل تغييرها.
ظل ابنه واقفا عند مدخل موقف الدرجات ينتظره، عمره لا يتجاوز عشر سنوات، أصر على المجيء معه إلى السوق، تخفى عنه مرارا ، لكن هذه المرة نشبه و لم يستطيع التخلص منه. أعاد عدَّ ما في جيبه من نقود، تفحصها بيده، راتبه قليل جدا، لا يكفيه، بالكاد يأخذه يصرفه على حاجيات بيته، لا يستطيع الاحتفاظ بشيء من راتبه حتى يأخذ الراتب الآخر، راتبه يكفيه لطعام و تلبية بعض أساسيات الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها، أما حاجيات الترفيه فهي مهضومة في حياته مند ولادته، لا توجد في قاموسه، علمه المجتمع أنه يجب ألا يبحث عنها، عليه أن يكبر و يلد و يحمل الحمل إلى آخر يوم في حياته، هذه الحياة التي علموه أن يعيشها.
انبهر الصغير من تراكم السيارات و الدرجات و الشاحنات و الناس في مكان واحد، لم يسبق له أن رأى كل هذه العشوائية في منطقة واحدة، كان سور السوق مايزال على حاله، مهدم في مناطق متعددة، الرؤية فيه تثير فيك الاشمئزاز، الغبطة، يروع القلب، طلاءه يحمل الكثير من الغبن الذي تراكم عليه على مدار سنوات، كتابات متلاشية في مناطق متعددة منه، كلمات نابية، رسومات مخلة بالحياء، رغبات مكبوتة تعيش فوق جسمه، لا ينتبه إليها أحد، الكل ملهي بأخذ ما يسد حاجياته من السوق و ينصرف.
كانت شاحنات كثيرة مرصوفة بشكل عمودي بجانب سور السوق، على يمين الباب الرئيسي و على يساره، مقصورتها الأمامية في اتجاه السور، و مؤخرتها في اتجاه الطريق محملة عن آخرها بالتبن، متوقفة لبيعه، و في كل شاحنة يوجد حوالي شخصين، يعملون على بيع التبن للفلاحين الصغار، كان الفرح يلتصق بدواخلهم رغم البؤس المتبدي على ثيابهم و ملامحهم، جد سعداء بعدم تساقط الأمطار، يرجونها ألا تمطر، يستفيدون أكثر، يبيعون بالة الثبن بثمن مضاعف، يستغلون هذه الفترة لتصريف فائضهم من الثبن.
ولج السوق و هو لا يبالي بكل الركام المتناثر من النفيات الصلبة، تخطى جريان النفايات السائلة القادمة من رحبة الدبيحة، كانت رائحتها تثير الغتبان، لكنه كان لا يبدي ردة فعل كأنه بفعل رؤيتها و شم رائحتها النتنة مرارا لم تعد تلفت انتباهه.



استوقفته طوابر عرض الملابس المستعملة، كانوا يصيحون من أجل جلب الزبائن.
زيدو مبقاش، زيدو مبقاش.
عشرون درهم لقميجة، عشرون درهم.
كانت الملابس كثيرة متراكمة، و من عدة أصناف و أنواع، سراويل، أحذية، أقمصة، قباعات…، و لجميع الأصناف رجال و نساء و أطفال.
اختار لابنه بعض الثياب، رغم شح سيولته المالية. حتى شرائها من هذا المكان المال الذي معه لا يكفيه!
وضع ما اشترى لابنه في كيس بلاستيكي، سدد ثمنهم، أعاد حساب ما تبقى لديه، استشعر أنه من الممكن ألا يكفيه.
توجه لشراء احتياجاتهم من الخضر و الفواكه…، جال بين بائعي الخضر و الفواكه، يقف و يسأل عن الثمن عند كل بائع، يسأل عن ثمن كل الخضر بكل أنواعها، أشاعت أثمنة الخضر و الفواكه العتمة في دواخله، مرتفعة جدا، شعر بالضعف في دواخله، و أن ما يتوفر عليه من مال لا يستطيع أن يغطي كل ما هو في حاجة إليه.
طاف بين البائعين، نفس الثمن عند كل البائعين، الإختلاف بينهم لا يتجاوز نصف درهم، كلهم يلقون اللوم على سوق البيع بالجملة، بالقول :
حنا شرينا الخضرة بثمن غالي، ما عندنا ما نديرو ليكم.
تبين له أنه ليس هناك حل، إما أن تشتري بهذا الثمن أو تموت جوعا، رضخ لثمن السوق قرر أن يصرف كل ما في جيبه و يعود للمنزل.
أخذ يزن ما في حاجة إليه من خضر، قلص من الكمية التي كان يأخذها، يزن حسب ما يملك من نقود، أخذ فقط الخضر الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
حمل الأكياس البلاستيكية من عند بائع الخضر، استوقفه طفلين يتجاوزا ابنه بحوالي أربع سنوات، عمي ميكة، ميكة. نظر إليهم بحزن، تمنى لو أن الحياة لم تأتي بهم هنا في هذا العمر، ظل ابنه يحملق فيهم دون أن يقول شيء، أراد أن يشتري منهم أن يساعدهم، رغم أنه ليس في حاجة لما يبعونه.لم يستطيع هو نفسه في حاجة للنقود ، لوح بيده في السماء بشكل سلبي اتجاههم كأنه يخبرهم أنه ليس في حاجة.



كان يحمل معه كيس من المنزل وضع فيه كل ما اشتراه من الخضر،حمله فوق كتفه، حملق فيه ابنه، أراد أن يسأله عن سبب بيع هؤلاء الأكياس البلاستيكية في هذا العمر، هم مايزالون صغارا و يشتغلون، أنت دائما تقول لي، عندما تكبر سوف تشتغل، شغله هذا الأمر أراد أن يسأله، تبدى له الغضب و الحزن على ملامحه قرر أن يحتفظ بسؤاله، صمت و لم يقل شيئا.
تفحص بأعينه الفواكه المعروضة للبيع كانت تثير الشهية فيه و في ابنه، لم يستطيع أخذ منها كل ما يشتهي. ذهب للبحث عن فواكه تكون أقل جودة، تكون بأقل ثمن، اشترى منها حوالي نوعين لم يتجاوز كيلوغراما و نصف في كل فاكهة، يريد في دواخله أن يأخذ، يريد أن يطعم عائلة بأجود مما هو معروض لكن كان لا يمتلك ما يوفر لهم ذلك.
أخذ ما اشتراه من فواكه سدد ثمنه، التفت نحو ابنه كانت بوادر الحزن متبدية على محياه، كان يتساءل لماذا أبي يأتي لنا فقط بهذه الأصناف فقط من الخضر و الفواكه، و هناك أنواع لا يأتي لنا بها، كان غاضب منه.
تجاهل حزنه، وضع الفواكه الذي جلب معه، توقفته سيدة يتجاوز عمرها الخمسين تتسول، بسطت يدها أمامه، طلبت منه أن يساعدها، كانت تتحدث بصوت باح يختزن الكثير من الحزن و تحمل في يدها العديد من علب الدواء، تحملهم معها، لدفع القلوب لأن ترق، لأن تعطف عليها، لم يستطيع تجاوزها، شعر بنفسه أنه تحت وطأة الإختبار في حضور ابنه، ساعدها بالقدر الذي يستطيع و هو يستحضر ابتسامتها عند دخول السوق، في الأسبوع الماضي، تبدت له أنها تلتحف الحزن عندما تطأ قدمها السوق.
جال في السوق، لم يشتري الكثير من الأغراض التي طلبتها منه زوجته من أجل أن يأتي بها، لم يشترى اللحم هو أصلا لا يشتريه، يشتري فقط في كل سوق الدجاج مكانه، اللحم يذوق طعمه نادرا في منزله، لم يكفيه ما لديه حتى لاقتناء الدجاج هذه المرة، أحس كأن سكينا انغرس في قلبه، عندما أخبره بائع الدجاج بثمن الكيلوغرام، لم يتحسس جيبه، عرف أن ما تبقى لديه لا يخول له شراء ديك يزن ثلاثة كيلوغرام، عاد لمكان بيع الخضر صرف ما تبقى لديه في جيبه في الخضر، وضع ما اشتراه في الكيس، أصبح ممتلئا ، وزنه أصبح ثقيلا شيئا ما، حمله على كتفه.
باغته صوته من الخلف، عمي كروسة، عمي كروسة، لم يلتفت إليه قط، كان يعرف أنه يريد أن يبيع له خدمة توصيل كيسه إلى خارج السوق، كان متعب في حاجة لمن يخرج له ذلك، لكن لا يمتلك ثمن تسديد الخدمة.



خرج يحمل الكيس فوق كتفه، يقف تارة لسماح أحد أن يمر ،و يصطدم مرة أخرى بأحد الحبال التي تشد الخيام، يتوفق، ينظر إلى الحبل، يعود للوراء و يفك الكيس، كتفه يؤلمه، لم يعد يستطيع أن يحمله، لكن لا مفر،يجب أن يتحمل و يلتفت لابنه عندما يشعر به أنه ابتعد منه.
وقف بعد أن شعر بالتعب، التفت إلى ابنه، لم يجده وراءه، وضع الكيس في الأرض بتدمر، كان الوَلد واقفا أمام أحد بائعي الألعاب، كان يتحسس مسدس اللعب بيده، ترك الكيس و ذهب نحوه، من عيونه تبدى له أن أعجبه كثيرا، أراد أن يبتسم في وجه ابنه فلم يستطيع.
كلمه قائلا: يالاه بابا نمشيو.
شد على المسدس ، وضع يده على الزناد من فوق الغطاء البلاستيكي، أجاب أبيه: بابا عجبني، بغيتو، شريه ليا.
أصابه الدوار، غزت دواخله ذرات حزن العالم دفعة واحدة، جلس مقرفصا أمام ابنه و سحبه من يده ببطء، و وضعه فوق طاولة البائع و عانق ابنه و أخبره في أذنه: مبقاش عندي ولدي، مبقاش عندي باش نشريه ليك و هو يصارع دموعه لكي لا تسقط.

إسماعيل بخوت – مدينة الدار البيضاء

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :