محمد هروان يكتب: الجبل الناعم

23 نوفمبر 2020
 
في لب الجبال، تتخرج أجيال لا تعرف لليأس طريقا، تكد وتجد، تملأ الدنيا عنفوانا وصداعا وثورة. في عمق مثل هذه التضاريس يتربى الإنسان المتحمل للمشقة والقسوة والصعاب، وسط دوامة من كينونة أقرب إلى الموت أكثر منه إلى الحياة، الرجال لا يكاد يفارق العرق جبينهم من فرط الاشتغال فيما يضمن ولو قليلا من متطلبات الحياة، التي تتجدد بتجدد الدم في شرايين هؤلاء، والنساء تقسوا عليهن الظروف مرغمة جمالهن العذري على اكتساء لباس الشيخوخة قبل الأوان، أما الأطفال فهم لا يعرفون للطفولة معنى إلا في أرقام أعمارهم. تتعلم الطفلة في عمر الزهر أشغال المنزل، فتصبح أما قبل حينها، وزوجة قبل أوانها، والطفل يصبح عاملا أو راعيا أو فلاحا مقاوما قبل اكتمال نمو عضلاته، الحياة تقسوا فيزداد معها هذا الإنسان قسوة، فالإنسان ابن بيئته.
 
في الشتاء معاناة لا يعيها إلا من عايشها، الذي ينظر لمشاهد الجبال المكسوة بالثلج عبر الشاشات يستمتع ببهائها، بيد أنه لا يدرك حجم المعاناة التي يتكبدها قاطنوها، البرد القارس يشل كل شئ، ويبقون في انتظار اليوم الجميل، متكئين على جدار من خوف وترقب وصمت، البرد عقاب الطبيعة لهؤلاء، لكنهم يعتادون إلى أن يصبح ذلك نمط حياة، المعاناة نمط حياتهم، لكن رغم ما يعانون، يبقون مبتسمين، لا يفقدون الأمل، دوما يرددون، مهما طال ليل القسوة سيطل صباح اللين، مزينا الأفق بنسيم الغابات التي تكسوا المكان، وآهات كائناته التي تربت في حضن هذا الإنسان.
 
قطعانهم كذلك تعاني، ويحسون بذلك، كما تحس تلك القطعان أيضا، جمعتهم المعاناة، لا شئ يقرب الكائنات من بعضها غير الآلام المشتركة، والمصير الموحد المحتوم، في الليل لا يكاد النوم يغزوا أجسامهم، عين تنام وأخرى تحرس المكان، كي لا يتسلل ضيف مزعج غير مرغوب فيه ليزيد الأنين عمقا حشرجة.
 
في لب الليل، حيث الصمت يسود الفضاء الممتد، والثلوج تتساقط ببطء وأناقة، يستفيق حدو، يخرج من الجحر، كي لا نقول المنزل، يرقب المكان، لا شئ إلا ضوء خافت لعائلة مشابهة تخيم في المكان لتواجد الكلأ فيه، مصباح تقليدي يطفئه هبوب الرياح من حين لأخر، كذلك لحدو مصباح يستضئ به، يذهب لتفقد القطعان، ليطمئن قلبه عليها كأنها فلذات من كبده، يجد نعجة تئن، مستلقية لتخرج مواليد جديدة إلى الوجود، يهرع فيهرب بسرعة ليستنجد بزوجته يطو، هنيهة من الزمن كافية لتنهض، يشرح لها الأمر، فتسبقه في الركض للالتحاق بمكان الواقعة، تساعد النعجة بحكمتها وحنكتها التي اكتسبتها منذ نعومة أظافرها، فتلد النعجة مخلوقان، ذكر وأنثى.
 
في نفس اللحظة، بينما انتهت يطو من مساعدة النعجة، تسمع أنينا، قادما من الجوار، فيذكرها زوجها بالضوء الخافت الذي رآه من قبل، ربما شئ ما يقع في جحر الجيران، يطو تتذكر أن زوجة ذلك الجار حامل، وفي شهرها التاسع، استوعبت بسرعة أن عليها الالتحاق بها لمساعدتها كما فعلت مع النعجة، تخطوا إليها بأنفاس متسارعة فتصل متأخرة، فات الأوان فماتت المرأة الحامل من شدة الألم، لم تلذ لا ذكرا ولا أنثى.
 
محمد هروان – تنجداد، الرشيدية
هذا العمل مستوحى من مسرحية “الجبل الناعم” لفرقة بادو للمسرح بالرشيدية.

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :